كان الهم الأكبر للمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة ودول أوربا الغربية خلال القرن المنصرم هو المحافظة على نمط حياة شعوبها المعتمد أساسا على اقتصاد السوق، ثم الحرية والديمقراطية اللتين اقترنتا به وسهَّلتا نموه وتطوره، وكل تحدٍ فيما عدا ذلك، يمكن معالجته بالطرق المناسبة.

وقد شكل تحدي الشيوعية القادم من روسيا الخطر الأكبر على نمط الحياة الغربية لثلاثة أرباع القرن العشرين، لذلك ارتاب منه الغربيون عموما لأنه كان يسعى إلى تغيير حياتهم جذريا، وسلب الحريات التي تمتعوا بها وميزت حياتهم عبر السنين، لذلك اصطفوا جميعا، واستجمعوا قواهم لحماية أنفسهم منه، ونسقوا جهودهم للحد من تقدمه والقضاء عليه إن أمكن.  

لكن تحدي النازية والفاشية، الذي شكلته ألمانيا وإيطاليا في النصف الأول من القرن الماضي، كان تحديا أعظم على الغربيين وخصومهم على حد سواء، ما اضطرهم إلى التحالف مع المعسكر الشيوعي المنافس لمواجهة هذا التحدي وإلحاق الهزيمة به في الحرب العالمية الثانية. لكنهم، سرعان ما قضوا على النازية والفاشية، وقسَّموا ألمانيا، محتفظين بالجزء الأكبر والأهم منها، تاركين الجزء الشرقي لحليفهم الشيوعي، عادوا للاصطفاف من جديد ضد المعسكر الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفيتي، واحتدمت الحرب بين المعسكرين، وسميت بـ(الباردة) رغم سخونتها في العديد من مناطق العالم (فيتنام وأفغانستان مثالين) واشتدت حدتها خلال عقد الثمانينيات، الذي كان الأخير في عمر المعسكر الشيوعي، إذ انهار كليا في السنة الأخيرة منه.

وبعد الانهيار المريع للاتحاد السوفيتي عام 1991، والمعسكر الشرقي عموما، الذي هرعت دوله للتصالح مع المعسكر الغربي والتحالف معه، إذ دخلت دول أوروبا الشرقية في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، بمباركة ودعم أمريكيين، تمسكت روسيا، على الأقل رسميا، بموقعها كقوة عظمى، رغم إدراك قادتها، ومعهم معظم دول العالم، بأنها في الحقيقة لم تعد كذلك، خصوصا مع التفكك السياسي الذي صاحبه تراجع اقتصادي مريع، عصف بالبلاد أثناء تحولها من الاقتصاد الموجه إلى الاقتصاد الحر في العقد الأخير من القرن العشرين، وما رافق ذلك التحول من فوضى أمنية واقتصادية.

وعلى الرغم من أن روسيا دولة كبيرة ومترامية الأطراف، ومازالت تحتفظ بقوتها العسكرية السابقة، ومؤسساتها العلمية المتطورة، التي تفوقت في بعض السنين على المؤسسات الأمريكية، خصوصا في مجال الاستكشاف في الفضاء الخارجي، فقد بقيت روسيا دولة تعتمد كثيرا على صادراتها من النفط والغاز والمواد الأولية، التي تشكل أكثر من 65% من صادراتها، حسب احصائيات مؤسسة (أكسبورت جينيوس) للأبحاث، وهذا يعني أنها دولة ريعية في الغالب، كما هي حال العديد من دول العالم الثالث التي تعتمد على تصدير المصادر الطبيعية والمواد الاولية.

 مبيعات روسيا من السيارات والطائرات والأسلحة المتطورة لم تعد تنافس مثيلاتها الأمريكية والأوروبية واليابانية، على الرغم من أن مبيعاتها من السيارات ارتفعت بنسبة 16.7% خلال العام الماضي، حسب (أكسبورت جينيوس)، إلا أنها لا تشكل نسبة كبيرة من الدخل القومي إذ لم تتجاوز 1.6 مليار دولار حسب مركز الصادرات الروسي. وإن كانت روسيا سابقا تُسوِّق منتجاتها إلى الدول التي تسير في فلكها في المعسكر الشيوعي والاشتراكي، فإن غياب هذا المعسكر والتحاق دوله بالمعسكر الغربي، يعني أن روسيا فقدت أسواقها الرئيسية التي هي مناطق نفوذها. كما أن صادراتها تتمتع بدعم الدولة وهذه الميزة غير قابلة للاستمرار، فلا يمكن الدولة، أي دولة، أن تستمر في دعم المصانع الخاسرة، فهذا الإجراء يراكم الخسائر فحسب.

 وحسب معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (سيبري) فإن صادرات روسيا من الأسلحة قد تراجعت بنسبة 22% خلال السنوات الخمس المنصرمة. والشيء نفسه ينطبق على الصين التي انخفضت مبيعاتها من السلاح بنسبة تقارب 8%، وبريطانيا التي تراجعت مبيعاتها بنسبة 27%.

مقابل ذلك ارتفعت صادرات الأسلحة الفرنسية بنسبة 44% والألمانية بـ21% والإسرائيلية بـ59%، والكورية الجنوبية بـ210% أما الصادرات الأمريكية من الأسلحة، فقد بقيت تتصدر مبيعات الأسلحة العالمية، إذ شكلت 37% من إجمالي مبيعات الأسلحة، وذهبت إلى 96 دولة، منها دول الشرق الأوسط التي شكلت مشترياتها من السلاح الأمريكي 47% حسب معهد سيبري.

الغريب في الأمر أن الصين، التي تعتبرها الولايات المتحدة التحدي الأكبر لها، وقال عنها الرئيس جو بايدن إنها تسعى لأن تكون أقوى دولة في العالم، مازالت تستورد الأسلحة من روسيا! لا شك أن الصين سوف تتمكن، ربما خلال عقد من الزمن، من تصنيع جميع أسلحتها محليا، ما يعني أن مبيعات الأسلحة الروسية ستواجه مزيدا من الانخفاض مستقبلا، بعدما تستغني الصين عنها. إضافة إلى ذلك فإن مبيعات الأسلحة عموما سوف تتأثر سلبا بجائحة كورونا، حسب بيتر ويزيمان، الخبير في معهد سيبري، وكثير من دول العالم ستقلص من إنفاقها على الأسلحة لتستخدم الأموال في الإنفاق على الصحة.

لا شك أن روسيا في عهد فلاديمير بوتِن قد نفضت عنها غبار الضعف والتفكك والتراجع الاقتصادي الذي رافقها على مدى عقد من الزمن في عهد الرئيس يلتسن، وقبله غورباتشوف، لكن آمال بوتين بأن تبقى روسيا دولة عظمى توازي الولايات المتحدة، كما كانت سابقا في عهد الاتحاد السوفيتي، لن تتحقق على الأرجح لأسباب كثيرة منها أن الدولة العظمى تحتاج لأن تكون متفوقة اقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا، وليس عسكريا فقط، وأن الدولة العظمى تحتاج إلى تحالفات دولية كتلك التي تمتلكها الولايات المتحدة حاليا، والاتحاد السوفيتي سابقا.

أما الأسباب الأخرى فهي صعود الصين الاقتصادي وتنامي أهميتها العالمية، وكذلك الهند، الدولة العملاقة التي تنمو بهدوء ولكن بسرعة في مجالات عدة، وبروز الاتحاد الأوروبي تدريجيا كقوة محتملة مستقبلا، إن تمكن الاتحاد من تحقيق التماسك الاقتصادي والعسكري والسياسي المنشود، وهو الهدف الذي يسير باتجاهه، وإن كان بخطى وئيدة.

لم تعد روسيا تشكل خطرا أيديولوجيا على العالم الغربي، لكنها في الوقت نفسه لم تتبنَ الديمقراطية الغربية أو تنخرط في التحالفات الأوروبية كما فعلت دول أوروبا الشرقية، كي يطمئن إليها الغربيون. نعم، روسيا ما تزال دولة قوية عسكريا وسياسيا، خصوصا وأنها تمكنت من إقامة علاقات مثمرة مع عدد من دول العالم، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي بقيادة ألمانيا، التي أبرمت اتفاقية تقضي بإنشاء خط (نورد ستريم 2) الناقل للغاز الروسي إلى أوروبا، والذي عارضته الولايات المتحدة، وما زالت تعارضه، خشية أن تزداد قوة روسيا ونفوذها في أوروبا، ويكون ذلك على حساب تحالفاتها.

 وبالإضافة إلى مصادر الطاقة، هناك مجالات أخرى للتعاون بحثها الرئيس الروسي مع المستشارة الألمانية ميركل والرئيس الفرنسي ماكرون في الثلاثين من مارس الماضي في مؤتمر قمة جمع القادة الثلاثة، عبر الدائرة الألكترونية المغلقة.

وعلى الرغم من أن الرئيس بايدن وصف الرئيس الروسي بأنه (قاتل)، فإن هذا (الخطأ) الدبلوماسي الواضح لن يعيق التعاون الروسي الأمريكي، الذي لم تعُقه أوصافٌ مماثلة أطلقها الرئيس الأسبق رونالد ريغان في الثمانينات، عندما وصف الاتحاد السوفيتي بأنه (إمبراطورية الشر التي يحتفظ قادتها بحق ارتكاب أي جريمة وممارسة الكذب والخداع)! لكن ذلك لم يمنع الرئيسين ريغان وغورباتشوف من اللقاء والتفاهم في ريكيافيك في آيسلندا.

 ورغم أن بايدن لديه الكثير من الانتقادات للسياسة الروسية، بينها التدخل الروسي المزعوم في الانتخابات الأمريكية الأخيرة، والانتخابات التي سبقتها عام 2016، والهجوم السبراني على مؤسسة (سولار ويند) للمعلومات الذي أدى إلى الكشف عن العديد من أسرار المؤسسات الحكومية المتعاملة معها، وبينها وزارة الأمن الداخلي ووكالات حكومية وشركات عملاقة مثل مايكروسفت، فإنه مع ذلك أقدم خلال أسبوعين فقط من توليه الرئاسة على تجديد اتفاقية الحد من الأسلحة النووية (ستارت) حتى العام 2026، التي تعثر تجديدها في عهد سلفه ترامب. وتنفي روسيا كل التهم الأمريكية الموجهة لها، لكن الواضح أن تلك الاختراقات الممنهجة والعالية الدقة تقف وراءها دولة منافسة.

استاءت الحكومة الروسية وأوساط روسية أخرى كثيرا من الوصف الذي أطلقه الرئيس الأمريكي على الرئيس بوتِن، فمثل هذه العبارات يمكن توقعها من الرئيس ترامب، الذي لا يراعي البروتوكولات والتعابير الدبلوماسية في أحاديثه وتصرفاته، وليس من رئيس متمرس في العلاقات الخارجية على مدى نصف قرن مثل بايدن. وقد استدعت روسيا سفيرها في واشنطن، بينما رد الناطق باسم الحكومة الروسية بقوة، ودعا بايدن إلى مناظرة مع بوتِن كي يوضح كل منهما أفكاره للشعبين الروسي والأمريكي، لكن بايدن لم يرغب أن يمنح بوتِن مثل هذه الفرصة التي ستضعه مع روسيا في مصاف الرئيس الأمريكي والولايات المتحدة، وتجعله يسرد تأريخ أمريكا في الحروب وما إلى ذلك، والذي سرده في مناسبة أخرى لاحقا. وقد رد بوتِن على بايدن بتعبير غير لائق أيضا قائلا (لا يعرف القاتل سوى القاتل)!

لا شك أن استخدام الأوصاف غير اللائقة لا يساعد في بناء علاقات جيدة، لكن معظم المراقبين لا يتوقعون أن يقف هذا مثل الخطاب حائلا أمام التفاهم بين الرئيسين والدولتين، فمصالح البلدين أهم بكثير من القضايا الشخصية. وهناك مجالات التقاء كثيرة بين الولايات المتحدة وروسيا في مجالات عديدة، اقتصادية وسياسية. ورغم أن روسيا متحالفة مع إيران في سوريا، لكنها لا تؤيد امتلاكها السلاح النووي. وفي الوقت الذي تعارض فيه روسيا الوجود الأمريكي في أفغانستان، إلا أنها تسعى لأن تراها مستقرة.

تحاول روسيا أن تبني تحالفاتٍ ومحاورَ مساندةً لسياساتها، وتتقرب إلى دول الاتحاد الأوروبي عبر تصدير الغاز إليها والتنسيق في مشاريع أخرى، وتتفاهم مع إيران في الشرق الأوسط، وتساند الصين في صراعها مع الولايات المتحدة، من أجل أن تستعيد مكانتها السابقة وتبقى في نظر العالم دولة عظمى. لكن القوة في هذا العصر هي القوة الاقتصادية الصانعة للثروة، والمحفزة على التقدم العلمي، إلى جانب التفاهم والتماسك الوطني والتلاحم بين الشعوب وأنظمتها السياسية. والدولة العظمى ترعى جميع سكانها ولا تضيق ذرعا بالنقد، ولا تبيد منتقديها بالاغتيالات والسموم، كما فعلت حكومة بوتن مع المعارضيْن أليكسي نافالني وسيرجي سكريبال.

مازال الرئيس بوتِن يتمتع بشعبية كبيرة في روسيا، ولا غرابة في ذلك، فقد تمكن الرجل من أن يعيد إلى روسيا مكانتها وقوتها واحترامها، وبعضا من نفوذها السابق. ولكن، في عالم يتسابق فيه العمالقة على الثروة والنفوذ، فهناك الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي والهند واليابان، وربما تبرز دولٌ ومجموعاتٌ دولية أخرى في المستقبل، في أمريكا الجنوبية وآسيا وأفريقيا، سيكون صعبا فيه على روسيا أن تبلغ المكانة التي حظيت بها في عهد الاتحاد السوفيتي، كما يطمح الرئيس بوتِن والطبقة السياسية التي يقودها.

الهجمات السبرانية قد تضر الخصوم وقد تكشف بعض الأسرار، في عالم يخلو تقريبا من الأسرار، لكنها لا تبنى دولا عظمى أو اقتصادات عملاقة، بل تبقى "انتصارات" وهمية ومصادر إزعاج وقتية، وفي الوقت نفسه فإنها تقدم دليلا على الضعف والخوف من تفوق الآخرين المشروع.

ستبقى روسيا دولة مؤثرة في العالم، لكنها لن تتمكن من التفوق على الولايات المتحدة والصين، وربما لن تبلغ الأهمية الاقتصادية والعلمية والصناعية للاتحاد الأوروبي، بقيادة ألمانيا وفرنسا، وهي على الأكثر لا يمكنها أن تتجاوز الهند على الأمد البعيد.