لمّا كان رأسمال الصحراء البساطة، فمن الطبيعي أن تتدخّل العفوية لتنسج من هذه البساطة أثرى أجناس العلاقة، ملفّقةً في ثالوث: ثالوث مركّب من ثلاثة ثواليث، لتستقيم الملحمة في تاسوع. تاسوعٌ كان في ميثولوجيات العالم القديم قدس أقداس، بوصفه وطن اللاهوت.

البُعْد الديني؟

وأيّ إبداعٍ حقيقيّ يجرؤ أن يتنكّر للبُعد الديني؟

بُعدٌ دَينونيّ؟

وأيّ إبداعٍ حقيقي يجرؤ أن يتنكّر للبُعد الدينوني؟

بُعدٌ وجوديّ؟

وأيُّ إبداع حقيقي يجرؤ أن يتنكّر للبُعد الوجوديّ؟

هل هذا احتفاءٌ آخر بنظام التثليت؟

وأيُّ واقعٍ كينوني يجرؤ أن يستثني من واقعنا نظام التثليث؟

مبدأ التثليت هو ما غاب في رؤى مريدي "التّبر"، فتوقّفوا عند تخوم الحرف، وتجاهلوا بُنْية العصب المركّب الذي يسري في شرايين الأمثولة.

فالثالوث الأوّل كيانٌ يُضمر العلاقة. العلاقة التي كانت حجّة كل نشاطٍ بشريٍّ على اليابسة، حتى إذا طلبنا البرهان هبّ لنجدتنا الأوصياء على اللغة: "كل مالٍ صامتٍ، أو ناطقٍ، فهو علاقة" (الثعالبي، فقه اللغة). فإذا كان المال بصيغته الصامتة أو الناطقة، هو علاقة، فكيف لا يكون حوار الإنسان مع ضميره علاقة حتى وهو يندَسُّ في قمقم عزلة؟ كيف لا يكون جدل الإنسان مع جناب الروح علاقة مهما تحصّن وراء أسوار عزلة؟ بل كيف لا يكون حضور الإنسان في رحاب ربّه علاقة مهما تحجّج بانقطاعه في خلوة خرافية مترجمة في حرف الصحراء الكبرى؟

ألن يعني هذا أن وجود الإنسان، بماهيّته كإنسان، هو علاقة، وأيّ علاقة، فلا تحتاج السيرة لوجود عمران، كشرطٍ لتبرير هويّتها كعلاقة، لأن هذا العمران لن يضمن ألاّ يتحوّل إلى باطل أباطيلٍ، مرويّ بلسان معتوه، ملآن بالصخب والعنف، دون أن يعني في النهاية شيئاً، كما يروق ملهم كلّ الأزمنة أن يتغنّى؟

فوجود إنسانٍ في مقام "أوخَيَّد"، في متاهة عدميّة كالصحراء الكبرى، وحده حجّة كافية لوجود علاقة، مادام حضور إنسان كهذا، في خلوة حرفيّة كهذه، ثمّ روحية في آنٍ، في واقعٍ بيئيٍّ ميثولوجيٍّ كالصحراء، هو حضورٌ في العلاقة، مادام القاسم المشترك الأعظم، المهيمن على هذا الواقع هو العزلة، فكيف إذا أُضيف لهذا الحضور، ذي البُعد الغيبيّ، حضور مخلوقٍ، لا يبدو حيواناً إلاّ لأوّل وهلة، وهو الجمل؟

هنا نحصل على أضلاع الثالوث الأوّل مركّباً في إنسانٍ باسم "أوخيّد"، ومخلوق أسطوري هو "الأبلق"، وشبح غيبيّ هو "العزلة".

بوسع هذه البُنْية أن تكتفي بنفسها، وتتباهى بحضورها في واقع حرية بلا حدود، لو لم يتدخّل القدر فجأة ليفسد على هذه الوحدة الوجودية الفطرية الهانئة حضورها في فردوس حرّيتها، متنكّراً في جرم ذلك المخلوق القديم، الذي أفسد على السلف الأوّل حضوره في الحرية يوماً، ليغدو الاغتراب في سيرته طبيعةً ثانية، وهو: المرأة!

والمدهش هو السلاسة المبتكرة التي تلفّق طينة الشَّرَك، لأن الطُّعْم الذي يوقع بالبطل هنا ترسيمة تسري في قانون الطبيعة، فلا يتمّ الاعتراف بها كواقع إلاّ بسبب تسويق الطبيعة لها كحجّة لاستكمال شروط القبول بواقعٍ موروث خلفاً عن سلف، مبثوثٍ في ضرورة تبدو بريئة كما: الازدواج!

هل تعشَقَ "أوخيّد" الحسناء بما يكفي لكي يسلّم لها زمام الأمر الذي جرّده من واقع الفردوس، أم أنه فعل ما فعل استجابةً لنداء العادة، المترجم في حرف وصيّة تقول: "هكذا وجدنا آباءنا يفعلون"؟
هل تضحية "أوخيّد" الجسيمة هي تلبية لنداء حُبٍّ عظيم، أم أنها كانت مجرّد استسلام لإغواء هو جرثومة كل أنثى؟

هل الأنثى قَدَرٌ كُتبَ علينا لكي ينفي فينا التوق إلى تلك الحرية، التي لا ضمان لأن تتواصل في أبعادٍ قصوى هي الموت؟

فبحضور المرأة في مشهد البراءة الأولى، تتشابك فصول الدراما، لأن غياب الحرية، في علاقة بين أطراف ثالوث، هو رهين حضور المرأة.

بالتزامن مع هذه الزلزلة هيمن ثالوث ثانٍ، ظلّ، في وجدان البطل، هاجساً، ظلّ وسواساً، مرويّاً برطانة حلم، طوال الخصام التراجيدي مع واقع علاقةٍ محكومةٍ بشبح العزلة، محكومةٍ بناموس العزلة. والتثليث هنا إنّما يسكن فحوى هذا الحلم اللجوج، المكرور، الملهم، الذي يحيا فيه البطل تجربة علاقة يسعى بموجبها فوق سطح بنيانٍ خربٍ، آيل للسقوط في أيّ لحظة، مسكون في ظلمات الأسافل بمخلوق مهيب، يستشعر وجوده دوماً، دون أن يفلح في الوصول إليه. فهو محصّن بالأسافل، الواقعة في جوف البيت: الجوف الملفوف بالظلمات، والطريق إليه محفوف بخطر السقوط، بسبب تضعضع السقف. ولكن ما لم يكن له أن ينساه طوال هذا المعراج الليلي اليومي العنيد هو الإحساس المزدوج: فهو محمومٌ بفضول الكشف عن حقيقة هذا المخلوق المهيب، ولكن وحياً مجهولاً ظلّ يحذّره من هول هذا الفضول، فيتزعزع. يتزعزع بخوفٍ عميق يصاحب حمّى الفضول.

خوفٌ مشفوع بخوف آخر هو انهيار سطح البنيان المهلهل، الآيل للسقوط، ليجد نفسه. في كل مرة، ضحيّة في قبضة عدوَّين: سطحٌ يتوعّد بالتخلّي عنه، ووَعيد الشبح القابع في الأعماق، في مكانٍ مّا في جوف البيت، الملفول بالظلمات. علاقة أخرى، مثلثة الزوايا، تتنامى في المنام، ولكن سلطانها يخيّم على واقع النهار، كأنّها الوصيّ، كأنها الترجمان الخلفيّ للثالوث الحرفيّ، الملفّق من موقف البطل فيه قطب، والمرأة خصم، والأبلق، مثالٌ يجسّد فتنة الجمال، ينسحب إلى هامش، إلى ظِلّ. ولكنه الظلّ المستحيل، لأن طبيعة التماهي ترفض وجود الشريك الثالث في الصفقة مع المخلوق الوحيد الذي لا يشرك بنفسه أحداً، وهو: المرأة!

ولكن ليس لنا إلاّ أن ننتظر ساعة نزول النصل على الرقبة، لكي تتبدّد الظلمات في قمقم الكيان، ويتجلّى أخيراً الكائن الجليل، المثير للفضول، القابع في جوف المجهول، ولكن بعد فوات الأوان، لأن ليس للروح، التي أضاعت الحرف الذي كان لها حجّة حضورٍ في الواقع، أن تراهن على اللسان المفقود، فتُدلي بشهادتها عن الحقيقة التي تسكن الجسد. وهو المصير الدامي الذي قادت إليه شطحة لعنات أخرى ثلاث، استقامت في حُكم قصاص، إستهلّتها وصيّة الأبّ المترجمة في: "لا بارك الله لك فيها"، كأنها ترديدٌ للعنة الربّ في حقّ المخلوقة ذاتها، لأنها بالإغواء أوقعت بسليل المهزلة في صيغتها الأولى. وهي لعنةٌ لم تكن وليدة غضبةٍ عابرةٍ من أبٍ، في حقّ خيار الابن الضالّ، ولكنها تعبيرٌ عن موقف الحكمة التقليدية من امرأة الأغراب لا لأنها مُريبة، غير آمنة، ملاحَقة دوماً بمُريدٍ مشبوه من جنس قبيلتها، ولكن لأنها تُدبّر مكيدة لئيمة بدمها، سوف تُسفر عن دمية خطرة، تغترب بموجبها السُّلالة، فلا وجود لضمان ألاّ تتحوّل وَهقاً يكتم أنفاس بطلٍ هو رجلها!

هذا كان الضلع الأوّل في ثلاثية اللعنات، ما لبث أن هرع ورمٌ خبيث هو النسيان، لتكون كلمته سبباً في الاستهانة بالوعد، الاستخفاف بالنذر المعطى لربّة الأجيال "تانيت"، ثم الحنث به، وهو ما لا يُغتفر في ناموس الأرباب. هذا ضلعٌ ثانٍ في لعبة اللعنة، ما لبث أن تُوّج بالعطيّة الحاسمة: عطيّة التّبر؛ ذلك الهباء المشئوم، الذي لم ينزل أرضاً إلاّ أشعل فيها فتيل حريقٍ أحالها يباباً. وكان من الطبيعي أن تتحوّل هذه المنحة المُهينة جرثومةً فجّرت في واقع العلاقة بركان النزيف، لتُبطل مفعول وجودٍ، راهن ببسالة على قدرة الحبّ في إنقاذ عالمٍ يتنكّر للحرية، ويُدمن إفيوناً مميتاً هو: باطل الأباطيل!

فهل استوت فصول الخلاص؟

باكتمال هيكل التاسوع تكتمل الشروط في سيرة أية أسطورة. في بيانٍ سالفٍ حقّقنا معالجة كاملة في تأويل ماهيّة التاسوع. فعبقريّة العقليّة البدئيّة، التي سخّرت واقع الحسّ، ليكون مرشداً في تأسيس المفاهيم المجرّدة، هي التي ألهَمَتْ الدُّهاة لكي ينصّبوا الرقم التاسع في حساب العدد وصيّاً على عرش الحقيقة، لأنه مسك ختام التكوين، والكلمة الأخيرة في صفقة الوجود؛ ومن الطبيعي أن يصير هويّة محفل الآلهة في ديانة قدماء المصريين، كما اعتمدته الديانة اليونانية في حقّ تاسوع ربّات الفنون، ليستعير في واقعٍ صحراويٍّ ميثولوجيّ، صيغة أعظم شأناً هي: البعث، إلى جانب بُعده كحجّة استواء في سيرة الكينونة.

ففي ثالوث الثالوث يتحقّق التاسوع، وفي حرم التاسوع، يقوم البرزخ المشرف على بعثٍ ليس ككل بعث، لأنه البعث في الحرية، البعث في حرية الأبعاد القصوى، فلا يضير الصخب، المجبول بالعنف، أن يتغنّى في المرثيّة، المروية بلسان معتوه، فلا تعود السيرة موبوءةً بغياب المعنى، لأن الحبّ، وحده الحبّ، يبرّر نزيف الضحيّة.

هامش: قراءة في لوحة غلاف

نستهين باللوحات في أغلفة الكتب، ويغيب عنّا أنها ترجمة مجازية لتلك الإيماءة العصيّة، التي نصّبها مريدٌ في مقام الروذباري حجر الزاوية في علم التصوّف، بحيث يجوز لنا أن نعتمدها كمُعادلٍ طبيعي لمجالٍ عصيّ أيضاً هو الاستشهاد. فالفنّان التشكيلي الذي نستحضره في واقع العمل الإبداعي لكي يختطّ لنا وَسْماً يصلح بصمةً لتزكية جواز سفر، هو لنا سفيرٌ لدى الأغيار، هو في الواقع فيلسوف مسلّح برؤية، مخوّل بالإدلاء بشهادة في تأويل المتن. أي أنه يُدلي، بهذا الوَسم، بحجّة. يُدلي بحُكْمٍ، كثيراً ما يكون أقوى حكمةً في استطلاع حقيقة عملٍ، هو دوماً مرتع جدل.

استخراج هذا الكنز هو الرهان في العلاقة مع إنجاز الرئيّ الروحيّ في موهبة الفنّان التشكيلي. وعلّ قراءة عابرة للوحة الفنان الإيراني هادي عادلخاني لـ "التبر"، في طبعتها الفارسية، جديرة بأن تطرح إشكالية استهتارنا بفن أغلفة الكتب، بل وقد تثير الأسئلة في علاقتنا بالفن التشكيلي إجمالاً. ولو خُيّرتُ كمؤلف لاختيار اللوحات الأكثر تعبيراً عن فحوى الرواية، لاخترت لوحة غلاف الترجمة الفارسيّة من بين أغلفة تزيد على الأربعين في صيغة الإصدارات الأجنبيّة.

تأمّلوا معي هذا الهودج الثريّ، الموشَّى باللون الأخضر، الممهور بأختام عتمةٍ، الملفّق في طبقاتٍ تتعالى وتتعالى، كأنها برج بابل، أُريد له أن يبلغ السماء طولاً، محمولاً على ظهر مخلوقٍ خرافيّ، استصدرت في حقّه أمم كثيرة حكماً بالانقراض. وهوية القنطروس في الواقع هو ما يليق به، لأن حِمْلاً أسطورياً، مكوّناً من كيان عمران متكامل في طبقات، لن يحتمله سوى حيوان أسطوري منقرض كالقنطروس. أي أن الرؤية العبقرية حوّلت السرج التقليدي هودجاً، ثمّ لم تكن لتكتفي، لأن الإلهام أَبَى إلاّ أن يطارد الحلم اللجوج، الملهم، المُغوي والمتوعّد في آن، فليس للهودج إلاّ أن يستقيم في بُنيةٍ عمرانية حقيقية، ليست مجرد ذلك البنيان المهدّم، الواعد بالهاوية، كما يستشعره البطل في حلمٍ صار في حياته هاجساً أبديّاً، مسكوناً بأمرٍ جَلَلٍ، يحتجب بظلمات الأسافل. الأمر الجلل الذي يستشعر وجوده بقوّة، ولكن هيهات أن يدركه.

ولكن السؤال في التأويل العبقريّ هو: أين البطل في واقع هذه الأطروحة الميثولوجية الغنيّة بالرؤى؟

لقد استحضر لنا الفنان، بروح الفيلسوف، الذخيرة التي غابت عن نقد الغرب والعرب معاً، فارتحل إلى معراج الأعماق، ليستنطق الحلم، يقيناً منه بأن الحلم في هذه الأحجية هو المفتاح، هو: القطب. وموقع البطل، موقع الطّيف المكبّل بحِملٍ هو الجسد، إنّما تماهى بالمعشوق، تماهى بالجمل، الذي استعار منه دُهاة اللغة اسم الجمال! ومن الطبيعي، لهذا السبب، أن يغيب من واقع المكان. فحضوره يسكن شقّين: يسكن "الأبلق" من جانب، كما يسكن الحلم، يسكن الكيان الرهيب المشيّع على جرم قنطروس الأجيال، المبعوث من رماد انقراضه، من جانب ثانٍ. وكيف لا يسكن حميمه وهو الذي آمن بعدم وجود للعاشق خارج وجود المعشوق، تماماً كما آمن بأنه ليس سوى طينة محبوكة من صيغة حلم؟ (فنحن منسوجون من ذات الخيط الذي نُسجت منه أحلامنا ـ شكسبير).

روح الشاعر، المسكونة بروح الرؤيا، لا الرؤية، هو ما انتصر في فرشاة الفنّان التشكيلي، فترجم لنا الموقف التراجيدي في حرف الواحة التي تتسلّق ظهر الشبح الأسطوري، لتذكّرني، كمُشاهدٍ يلتزم الحياد، بحقيقة واقع الواحة التي تدور في محيطها الوقائع، حيث عثرتُ في إحدى الموسوعات على لوحة مرسومة بريشة رحّالة أوروبّي زار الصحراء في القرن الثامن عشر، فجسّد كياناً عمرانياً لقلعة آدري شبيهاً، يتسلّق رابية، ليستقيم في هيكل برجٍ، مثيل لحصون أوروبا في القرون الوسطى، يختزل تماماً شهادة رؤيا الفيلسوف التشكيلي في حقّ الواحة المعتمدة في الرواية نموذجاً.

إنها حجّة الصحراء، كروحٍ تجسّدت، مقابل حجّة العمران كشهادة على بطلان كل مبدأ كياني، كل تلفيق كينونيّ، وهو الوضع الذي ينعيه الحلم، كناطقٍ باسم الحقيقة، المُومِئه بخراب الجسد الفاني، بالمقارنة مع الإيحاء بحضور المبدأ الوحيد الذي حقّ لنا أن نعوّل عليه وهو: الروح.
فوسوسة الحلم اللحوح كانت ترجمان وصيّة الروح، ولم يكن للبطل أن يستوعب نَبَوِيّتها إلاّ بعد فوات الأوان، لأن التدخّل الجراحي الدموي أبطل سلطان الحرف الذي يُميت، ليحقق الخلاص للروح التي تُحيي.