لعنات الألوهة لا تقتصر على ذريّة الأوطان، ولكنها كثيراً ما تصيب الأوطان نفسها، ومن سوء حظّ وطنٍ عظيمٍ كليبيا أن ينتمي إلى طينة هذه الأوطان. هذه اللعنة استودعت ليبيا ظلمات الإغتراب، فلم يهنأ بها أبناؤها منذ الأزل، ولم تزل.

لم يهنأ بها أبناؤها الأصليّون، كما لم يهنأ بها الأبناء الطارئون، فهي غنيمة أبديّة، قدرها أن تُستلب، بدايةً بالإسم، ونهايةً بالماهيّة الجغرافيّة، مروراً بذخيرتها الروحيّة، وثرواتها الماديّة، على نحوٍ نصّبَ في هويّتها هذه الخصلة الإغترابية طبيعةً، فلم يخطيء أبو التاريخ هيرودوت أن يستنزل في حقّها وصمةً تراجيديةً، عندما دمغها في تاريخه ببصمة "ملبومينا"، كعنوانٍ لكتابه الرابع الخاص بهذه الأحجية الملقّبة باسم ليبيا، الدالّ على ربّة المأساة في محفل ربّات الفنون التّسع، فإذا بنبوءة أجيال السلف تهرع لنجدته أيضاً عندما استنزلت في لسان عرّافة معبد دلفى الوصيّة الدهريّة:

"سوف يعضّ بنان النّدم

كل مَن لم يهرع إلى أرض ليبيا السخيّة

لينال نصيبه من الأرض

في موسم اقتسام الأراضي".

بهذه المعزوفة القاسية خاطبت العرّافة وفد اليونانيين الذين ذهبوا للإقامة في ليبيا ثم عادوا على أعقابهم بدافع الحنين، فخاصمهم أهلهم، فاحتكموا إلى ساحة النبوّة في معبد دلفى حسماً للنزاع، ليتلقّوا منها الوصيّة التي تحرّض على الإمتثال لمشيئة الأرباب، والعودة إلى فردوسٍ إسمه ليبيا، ظلّ، في ما أسمته العرّافة بـ"النبوءة الليبية القديمة"، غنيمةً أسطوريّة من نصيب الأغراب. وليس لنا أن ندرك هويّة تلك الأفواج من الأغراب الذين تسابقوا لأخذ نصيبهم من كنوز هذه الأرض التي لا تنفذ، لأن الزمن الضائع السابق على تاريخ أبي التاريخ، هو ماضٍ يسكن بطون المجهول، المترجم في حرف نبوءةٍ وصفتها العرّافة في وصيّتها بـ"القديمة"، ممّا يعني أنها أحجية تسبح خارج فلك التاريخ المعلوم. أمّا فريق الغرباء اللاحق، الوارد في مدوّنة هيرودوت، الذين أقبلوا للفوز بنصيبهم من الثروة الأبدية السخيّة، فهم اليونانيون والفينيقيّون، قبل أن تخبرنا مدوّنات تاريخية تالية، بسيرة قافلة الأغراب الذين استوطنوا ليبيا، كالرومان، والعبران، والعرب، والوندال، والإسبان، ممّا حوّل هذا الوطن النبيل فسيفساء فاتنة تمازجت فيها الأعراق والأنساب والثقافات، على نحوٍ يضيف إلى كنوزها الحرفية، كنوزاً أنفس بما لا يقاس، وهي الكنوز الروحية، برغم هيمنة النزعة الإستلابية التي حاقت بالوطن.

فالواقع أن النبوءة لم تخطيء في أيّ حرف ممّا ورد في الوصيّة. فالندم كان من نصيب كل مَن تخلّف عن الركب المقبل على هذ الأرض المنذورة للتقسيم منذ البدء، كأنّ حضور الموسم كفيلٌ بنَيْل النصيب المستحقّ من أراضيها اللامحدودة في المساحة الجغرافية، واللانهائية في سخاء ثرواتها الجوفيّة، الحرفيّة منها والروحيّة. يكفي أن نذكّر بأن إسم ليبيا تركيبٌ لغويٌّ معبّرٌ في الفحوى عن الحقيقة التي تغنّت بها النبوءة، لأنه رقعة مذهلة تمتدّ لتشمل كل القارة المعروفة اليوم بإسم إفريقيا، قبل أن تستقطع منها الأقوام الوافدة حصصاً غيبيّةً حشرتها في حيّزٍ ضيّق هو شمال القارّة، لتأتي أزمان أخرى، تُقبل فيها أقوامٌ أخرى لتنتهب منها نصيباً آخر، فتحصرها في الواقع الجغرافي الأضيق نطاقاً، والمحدود مساحةً، وهو ليبيا المعتمدة في خرائط الرحالة كـ"الإدريسي" مثلاً، التي لم يكن لها أن تسلم أيضاً من سلبٍ مُمنهجٍ جديد، إستقطع منها مساحات صحراوية شاسعة، كانت إلى وقت قريب تتغلغل في عمق الصحراء الكبرى، لتدرك "كانم"، وبحيرة كوري (تشاد حالياً)، وتخوم نهر كَوكَو (نهر النيجر بلغة اليوم)، قبل أن تُقبل فرنسا الإستعمارية في القرن التاسع عشر لتسلخ من جسدها المساحات الصحراوية الممتدّة من سجلماست وما حولها، وآهجّار، وآضاغ، وآير، وتبستي، في وقتٍ كانت فيه أمم الشرق تستولي على أطرافها الشرقية، لتُلحق مجموع الواحات بمصر، بما في ذلك واحة "سيوة"، التي ظلّت تحتل منزلةً قدسيّة في تاريخ ليبيا الديني، لأنها مسقط رأس أحد أهم معبودات العالم القديم، الموصوف في كل المصادر بلقب "الليبي"، كما الحال مع "آمون"، الذي لم يكفّ الإسكندر الأكبر عن التغنّي بالإنتماء إليه. ومازالت الصحراء الواقعة غرب مصر تحمل وسم الهوية الليبية، في حرف مصطلح موروث عن المصادر الهيروغليفية، وهو"الصحراء الليبية"، لتتبنّاه الخرائط حجّةً جغرافيّةً سادت من ما قبل التاريخ إلى اليوم كشهادة على أرومة كل ما وقع غرب النيل.

الشمال أيضاً لم ينجُ من النهب. فمصطلح  mare libicom الذي ورثته الأمم اللاتينية عن سلفتها اليونانية، والدالّ على "بحر ليبيا" بالأمس، كنايةً عن البحر المتوسط في لغة اليوم، لحقه الإغتراب أيضاً عندما أقبل العرب لينزعوا عنه هذه الهويّة، فيستنزلوا فيه هويّةً رومانيةً من خلال إسم "بحر الروم"، برغم أنهم لم يتنصّلوا من ذخيرته الوجودية، المعترفة بانتمائها إلى رحاب ليبيا منذ الأزل، المتمثّلة في جزر مالطا وصقلية وأرخبيل البليار، حيث ظلّ أهل مالطا على وفائهم لليبيا مترجماً في منطوق اللسان الليبي، الطرابلسي تحديداً، مطعّماً بألفاظ إيطاليّة وإنجليزيّة كهبة حداثيّة محكومة بواقعٍ إستعماري لاحق. أمّا جزر البليار فمازالت بقايا معبودات ليبيا القديمة باقية في معالم الآثار حتى اليوم، حيث تتبارى المؤسسات في تتويج صروحها باسم "تانّيت"، تيمّناً بالمعبودة الليبية القديمة، إحتفاءً بالإنتماء إلى هويّة الوطن المجيد، الذي سنّ للأجيال ناموس التقوى، وروّض في اللغة رسالة المفهوم في بُعده الديني والوجودي، ليلقّنه لإنسانية بكرٍ ظامئة لما نسمّيه بلسان اليوم: إيماناً.

أمّا تونس في الغرب فلم تكن يوماً سوى تحويراً من إسم ربّة الأرباب "تانّيت"، في المرحلة التي كانت تُنطق فيها أيضاً "تانّس"، إمتثالاً لقانون الإبدال الذي تتعاقب فيه السين مع التاء، والتاء مع الدالّ، والدّال مع الضادّ، إلخ. والبرهان في تعدّد أوتار المعزوفة تهديه لنا هجرة هذه الربّة إلى رحاب الشرق، حيث تبوّأت عرش الدلتا لتستنزل إسمها هويةً في دولة "تانيت" التي تُكتب أيضاً "تانّس": وفي "نِيَتْ" أيضاً، بإسقاط تاء التأنيث الأولى كعادة اللسان المصري، كما أسقطه في "مَريت"، من أصلٍ هو "تِمَرِيت" الدالّ في اللغتين الشقيقتين، على صفة "المحبوبة"، أو "المعشوقة"، إشتقاقاً من مصدرٍ هو: "مر" الدالّ على فورة عاطفيّة استقامت في غنيمة روحية هي: الحبّ. وكلمة: المرء التي يقول سفر التكوين أنها مصدر لكلمة "إمرأة"، إنما هي أرومة مستعارة من مبدأٍ جليلٍ هو: الحبّ، لتتبنّاه العبرية في إسم "مريم" بإضافة الميم العبرانية الإسمية، وتستحضره اللغات الأوروبية في "ماريّا" إلخ، في رحلةٍ إغتربَ فيها المعنى البدئي للإسم، لأن المرأة لم تكن لتكون فتنة الوجود لو لم تكن النموذج لمعجزة إسمها الحبّ. و"تانّس" أو "تانّيت" لم تكن لتتبوّأ منزلة ربّة الأرباب في عالمٍ المرأة فيه معبودة بفضل الحبّ، لو لم تكن الراعية لهذا المبدأ الذي لعب دور البطولة في تلفيق وجودٍ رأس المال فيه علاقة. وهو ما يعني، في المفهوم، أن الحبّ كان الحرف الأول في أبجديّة الكينونة، وهذه العاطفة العاصفة هي البذرة التي أنجبت العالم من رحم العدم، والمرأة، كأنثى، هي كلمة السرّ في الصفقة؛ والعالم القديم لم يخطيء عندما نصّبَ لغزاً باسم المرأة في مسيرته معبوداً، ومن الطبيعي أن يعتنق "الحقّ الأمومي" ناموساً في تجربته الدنيوية، لتهيمن المرأة على عرش السلطة دهوراً، قبل أن تنتصر طينة القوّة العضليّة على هشاشة المنطق الروحيّ، ليشهد العالم قيام نظامٍ أبويّ معادٍ لذلك الحرَم الذي كانت له الأمومة حارساً وهو الطبيعة، ليناصب عداوة أخرى في حقّ الأرجوحة التي كانتها الطبيعة الأمّ للواقع الإنساني، وهي: الحرية.

فالطغيان لم يغدُ قدر المجتمع البشري إلاّ مع قيام النظام الأبويّ. فحتّى في ظلّ إستيلاء الفينيقيين على شمال غرب القارّة الليبية ظلّت نواة إمبراطوريّتهم امتداداً طبيعيّاً للأرومة ليبيا. وقد استمرّ هذا الإنتماء إلى زمن قريب كانت فيه حدود ليبيا تشمل أراضٍ تتجاوز تخوم صفاقس بما في ذلك جربة بالطبع. وقد قام المغامر علي برغل، بعد أن استولى على عرش القرمانليين بمكيدة مثيرة للسخرية، ليؤكّد كم السلطة لعبة مثيرة للشفقة، بمهاجمة تونس في نيّة لاسترجاع جربة وصفاقس إلى سلطان المملكة الطرابلسية، ولكن تحالُف باي تونس مع القبائل الليبية أنزل به الهزيمة التي أفقدته العرش الذي ناله ببسمة حظّ!

ولكن الذخيرة الجغرافية، التي استقطعتها الأمم من هذا الكيان السخيّ، تهون إذا قورنت بالثروات الروحية التي جاد بها مسقط رأس التكوين هذا، لتصدق في حقّه النبوءة القاسية التي أورثها الأسلاف لأخلافهم، ومازالت تجري في ألسنة بقايا هؤلاء، كما تتردّد على لسان طوارق اليوم في حرف وصيّةٍ تقول: "إيموهاغ أميهغن"، وهي عبارة مستغلقة بقدر ما هي مُثقلة، بسبب ولع القوم بفنون التورية، حيث تلعب وحدة المفردة دوراً مزدوجاً يقوم فيه الفاعل بدور المفعول في آن، في حين تسكن الذخيرة الرمزية جوف مفهوم إسمٍ ملتبس مسكونٍ بحفنة دلالات كما الحال مع كلمة "أماهغ"، التي هي نفسها "أمازغ" في لهجة أخرى، وهي أيضاً "أماشغ" في لسان قبائل منطقة ثالثة. وهي في الفحوى معزوفة ترطن بطائفة دلالية مثل: الشجاع، النبيل، الحرّ، المستوطن، النزيه، وغيرها من القيم الأخلاقية التي اعتنقها الأسلاف ونحتوها لتكون رديفاً لهويّتهم التي تميّزهم عن بقيّة السلالات. ولكن المفاجأة أن الكلمة تأبى إلاّ أن تتحلّى بالتسامح، فتذهب للحجّ في حرم الجدل، حيث تستعير خصالاً توحي باعتناق الضدّ، عندما تحوي مفهوماً يعبّر عن واقعٍ ملتبسٍ إستجابةً لطبيعة الأشياء التي لا تنتحل مزايا إلاّ لتعترف بالثمن المستوجب الدفع. فالقيم النبيلة مستهدفة دوماً، والنزهاء في خطرٍ أبديّ، والمستوطن رهين فخٍّ هو الإستقرار.  والمكيدة تحوم حول الإنسان الذي اعتنق الحرية ديناً.. إلخ، ولهذا السبب، برهن الإنسان بالتجربة، أن صاحب المُثُل هو ضحيّة تدبّ على قدمين، لأنه، بهذه القيم، لن يأمن غدراً أبداً أينما حلّ في نشاط الحضيض الدنيوي. ولذا لم يستحِ دهاة الأوائل في أن يستنزلوا ألقاباً عصيّة في حقّ هويّتهم، مثل "المغدورون" أو "المسلوبون"، أو "المغلوبون على أمرهم"، لاستخدامها كرديفٍ لتجربتهم الوجودية، التي  كوّنت معدن هويّتهم في بُعد الأرومة. وهو اللقب الذي لم يخطيء قدماء الليبيين عندما اعتمدوه في ماهيّتهم، إعترافاً بالطبيعة الإنسانية، وقبولاً بقدَر وجودهم بين أممٍ اعتادت أن تنهبهم، دون أن تُنصفهم.

تنصفهم؟

وكيف تنصفهم إذا كان منطق الجشع لا يعترف إلاّ بالإستيلاء على المزيد؟ هذا المزيد كان عسير الثمن هذه المرّة، لأن الإستحواذ على كنوز الروح هو النزيف المقدّس الذي لا يعوَّض، فيما إذا قورن بنزيف الكيان الجغرافيّ. ولذا فهو الدرس الذي لا يُجارَى في تاريخ السّخاء. والدليل يتحفنا به موقف أمم هذا العالم من المصدر الوحيد الذي تحوّل في واقع دنيانا مرجعاً للأصالة، كما الحال مع تاريخ هيرودوت، حيث اعتدنا مراسم الإحتفاء التي تجود بها أيّة سلالة فازت ولو بسطرٍ في هذا الكتاب المقدّس، لتسويقه كبرهان على المجد! هذا في حين تتعمّد هذه الأمم التجاهل، بل التعتيم المبرمج منذ القدم، في حقّ أكثر الأمم التي تغنّى بها هذا الكاهن من دون كل الأمم، وهي ليبيا، التي سبّح بحمد أفضالها على الأمّة اليونانية، التي استعارت منها كل ثرواتها الروحيّة، ومعتقداتها الدينية، وممارساتها التقليدية، وعاداتها الجماليّة، وحتى ربّة أرباب الأمّة "أثينا" هي ربّة ليبيّة، وكل التراث الوجودي المعتمد في أدبيّات اليونان، هو باعتراف هيرودوت هبة ليبيّة، كما أورد بالحرف في الكتاب الرابع من ملحمته الخالدة، الذي توجّه بوَسْمٍ له مغزى، هو: "ملبومينا"، الدالّ على ربّة التراجيديا في تاسوع ربّات الفنون في الميثولوجيا الإغريقيّة؛ كأنّ هذا العرّاب العبقريّ يترنّم بأحجية هذا الوطن الغيبيّ الخالد، المسكون بسرّ التكوين، ليزفّ للعالمين البُشرى النبوية التي أسعدت الأمّة التي كان لها الفضل في أن تتبوّأ منزلة المنارة التي أضاءت للجنس البشري الطريق نحو الحقيقة: الحقيقة التي لم تكن اليونان لتهتدي إليها لولا هبة الليبيين.

هذا ما أورده أبو التاريخ في إنجيل التاريخ، وقال في حقّ ليبيا أكثر من هذا، ولكن العالم المجبول بروح المؤامرة منذ الأزل تنكّر للإحسان المقدّس، تلبيةً لنداء الحسد الذي كان علّة أوّل جرم في التاريخ، وعمل كل ما بالوسع كي يطمس النبوءة بالفنّ اللئيم الذي أتقنه كما لم يتقن شيئاً وهو: الصمت. لأن العالم المكابر، الذي نصّب نفسه حَكَمَاً على الواقع الإنساني، قرأ في البيان حقيقة أعظم شأناً من أن تُنسب إلى وطنٍ صارَ بصنوف النهب طلولاً، تجعله جديراً بأن يختفي من واقع الجغرافية نهائياً، لأن بقاءه أسطورة تهدّد أشباح الكيانات الباطلة، المعادية للحقيقة، التي لا يستحي أن ينفخ في ظلالها، ليسوّقها في أدبيّاته كقدس أقداس، ليتيح الفرصة لأقزام الأوطان أن تنال نصيبها من الأشلاء، فلا نستهجن بعدها أن تسطو الأقوام على ماضي الضحيّة، فيأتي مَن يدّعي انتماء سبتيموس سفيروس إلى سوريا، كما فعل في أحد الأيام مخرج محتال، لمجرّد أن كل ما متّ لليبيا هو مشاعٌ مباحٌ، ممّأ يفسح المجال لحواةٍ من طينةٍ أكثر وقاحة بأن يدّعوا انتماء أوّل روائي في التاريخ، وهو أبولّيوس الصبراتي، صاحب "دفاع صبراتة"، والجحش الذهبي، إلى بلدٍ كالجزائر، التي لم توجد بهذا الإسم المنحول إلاّ بالأمس القريب، فلا تكتفي بهذا السطو، ولكنها تمضي شوطاً أبعد عندما تنسب لنفسها امتلاك أقدم مواقع الحضارات الليبية في تاسيلي وما جاورها من أطلال. فلا نستغرب أيضاً أن تُسرق من خزنة هذا الوطن الشقيّ رموز روحيّة أخرى كأعظم مؤرّخي الرومان، وهو تيتوس الملقّب بـ"الليبيّ"، وكذلك نظيره "بوليبيوس"، هذا إلى جانب "القدّيس أوغسطين"، وصاحب أكبر موسوعة لغوية كان لها الفضل في تقويم اللسان العربي نفسه، وهو "إبن منظور" الذي تبوّأ منزلة قاضي طرابلس، لا يرد إسمه في أدبيّات اليوم إلاّ مقروناً بصفة "المصري الإفريقي" في إقصاءٍ متعمّد لهويّته الليبية.

يحدث هذا بسبب غياب الليبيين المخوّلين بالدفاع عن هويّة ليبيا، والمؤمنين بقيمة وطن عظيم إسمه ليبيا، فتغترب ليبيا إلى الحدّ الذي تغدو فيه براهين أصالتها، الناطقة بحجّة ماضيها، كالآثار، مشاعاً مباحاً للأغيار، كأنّ مَن يسكنها لقطاء أقبلوا على حرمها من كل صوب، ولا يعترفون بالإنتماء إلى طينتها، لأنهم لم يقبلوا عليها يوماً إلاّ لأخذ نصيبهم من الغنيمة، فلا يدهشنا أن يجود آل القرمانلي على حكّام الأمم الأوروبيّة بكنوز آثارها في شحنات خرافية استطاعت أن تكون نواةً لقصورهم في باريس ولندن وروما، كمخطّط مدبّر لمحو الذاكرة الوطنيّة، لتستمرّ سيرة هذه المكيدة بمشيئة كل من توالى على حكم هذا الوطن إلى اليوم، مع تعديلٍ طفيفٍ في التسويق، أضحت الآثار بموجبه تُباع، بعد أن كانت في الماضي تعطى على سبيل الإهداء.

حدث هذا مع الثروات الروحية، فكيف الحال إذا تعلّق الأمر بصنوف الإستنزاف في مجال الثروات الجوفيّة؟

فهل ينجو المريدون بما فعلوا في حقّ الأوطان؟

فالقصاص يحوم دوماً حول مَربَع الآثام. فالأرض حرمٌ مقدّس، والويل لمن سوّلت له نفسه استباحة حرمة الأرض، حتى لو كانت مجرد أرض، فكيف إذا تحمّمت الأرض بلهب الإيمان، واحتضنت في عمقها نبوءةً؟

فالأرض بقدر ما تتسامح، بقدر ما تنتقم. ووصيّة العرّافة، المنسوبة إلى النبوءة الليبية القديمة، شرَك للإيقاع بالطمع، والإقتصاص من أهل الجشع، بقدر ما تبدو درساً في السخاء، مترجماً في حرف دعوة للوليمة!

وليبيا كانت ستجود بالغفران، كما جادت على الخليقة بالكنوز، لو لم تتنزّل في حقّها تميمة كالصحراء، لأن الله اصطفاها لكي تكون له وطناً من دون كل أركان اليابسة، لتحتكر، بهذا الشرف، الحقيقة، المترجمة في حرف النبوءة، فحقّ للصحراء أن تتوالد، وتتّسع، عملاً بوصيّة نيتشة: "الويل، ثمّ الويل، لمن سوّلت له نفسه أن يستولي على الصحراء".

فالموقف العدميّ من ليبيا، ليس وَحْيَاً مستحضراً من منزلتها الجغرافية، ولكنه موقفٌ أخلاقيّ من القارّة الأخرى، التي تسكن هذه القارّة، وهي الصحراء الكبرى؛ وحكم الإعدام المستصدر في حقّ هذا الوطن النقيّ، والشقيّ في آن، هو، في الواقع، حكم العالم في حقّ وطن، هو بمنطق مريد حقيقة في مقام روبرت موزيل، ليس مجرّد وطن، ولكنه وطن الرؤى السماوية، وإلاّ لما اصطفته الأقدار لكي تستودعه وصاياها، وتنصّبه ملاذاً لجنينٍ كالنبوّة. وليس مصادفةً أن تستعير القارّة كلّها إسمها من ماهيّة الصحراء في مفرزة هي قدس أقداس مثل: آفرا، الدالّة في الليبيّة على: العراء، أو الصحراء، لتستقيم في "إفريقيا"، وما تزال متداولة في لسان أحفاد الليبيين القدماء (طوارق اليوم) بالصيغة ذاتها. ولهذا يكتسب الموقف بُعداً وجودياً. أي موقف إنسان العمران، الذي خان ناموس الحرية، يوم أعياه الترحال، فانشقّ عن قبيل الدياسبورا الإلهيّة، كما ينعتها القدّيس أوغسطين، مستسلماً لإغواء المكان، ليناصب قرينه المهاجر العداء منذ ذلك التاريخ، لينقسم الجنس البشري إلى فريقين، بل إلى طينتين مختلفتين، تعتنق إحداهما دين الشقيّ قابيل، في حين استماتت الأخرى في التشبّث بدين الضحيّة هابيل، لتبقى تزكية الربّ لقربان الأخير، في مقابل رفض قربان قابيل، الحجّة التي لم تغتفرها قبيلة قابيل، لشقيقتها الوفيّة لوصايا قتيلها هابيل، لتنتقل جرثومة العداء لتسري في دم الفريقين فتتحوّل هويّة، تسكن علامة روحيّة فارقة، على نحوٍ لا يختلف عن علامة الربّ التي وسم بها جبين قابيل لا لكي لا يقتله كل مَن وجده، كما يرد في سفر التكوين، ولكن لكي يقتله كل مَن وجده، بالمنطق لأن الله هو الذي جعل لنا من القصاص حياة.

فقيم الحبّ، أو الحرية، أو التضحية في سبيل أداء الواجب، التي دفع هابيل حياته ثمناً لها، إنّما تسكن الصحراء بطبيعتها، ومن الطبيعي أن يعاديها الإنسان الدنيوي، الذي انحرف عن صراط الترحال، واختار المقام خلف سجون الجدران. ومازال النزال القديم، الأزلي، قائماً بين الفريقين، بين العقليّتين، بين الديانتين: ديانة الدنيا، وديانة الدين، ليستمرّ إنسان الهجرة، في صراعه مع إنسان الدنيا، ضحيّة تدبّ على قدمين، بقدر ما هو درس قدسي يدبّ على قدمين، وهو الذي لم ينتمِ يوماً لهذا العالم، الذي استهوى أهل الباطل، فنصّبوه في وجودهم معبوداً.

ومن الطبيعي أن يغترب عن واقع الوجود كل من انتمى إلى واقع، غير معترف به كواقع، وإلاّ لما اعتمدته كل الأدبيّات السائدة كرديف للعدم، كما هو الحال مع واقع الصحراء، الذي يتغنّى به المهاجرون كفردوس. والوطن الليبي كان وسيبقى بوّابة هذا الفردوس، لأنه للتكوين مسقط رأس.هو وطن تكوين بالمسلّمات العلميّة، وبالإكتشافات الأثريّة، علّ أعظمها حُجّة جمجمة السبعة مليون عام المكتشفة منذ عقدين في الصحراء الكبرى، التي يلقّبها الأوائل باسم "آفرا"، "إفريقيا" الدالّة على هوية الوطن الوحيد الجدير بأن يكون مسقط رأس صنيع الربّ، وهو الصحراء. ولهذا فالمنطق أن يحتكم حكماء العبرانيين للصواب، ويتخلّوا عن عصبيّتهم التقليدية في التغنّي بالإنتماء إلى سلالة شعب الله المصطفى، فيعترفوا بمسقط رأس آدم في الغرب من عدن، وليس في الشرق من عدن، كما أوردوا في سفرتكوينهم تلبيةً لنداء العِرق.

وهو ما يعني أن هيرودوت كان ملهماً بما يكفي كي يخصّ ليبيا، دون سواها، بلقبٍ مسكون، بروح اللعنة، كما "ملبومينا"، الدال على التراجيديا، لأن السقطة الأولى التي كانت، في ناموس الألوهة، رهينة خطيئة أولى، وطبيعي أن تسري جرثومة التكوين في شرايين الكينونة، لتكون نواة تجربةِ المأساة فيها رأسمال، الفناء بها فحوى، وباطل الأباطيل لها خارطة طريق!