هل باتت ليبيا في مواجهة سيناريو تجميد الأمر الواقع، لا سيما أن الظاهر إلى السطح حتى الساعة يدعونا لليقين بأن ما يجري هو قسمة الأراضي الليبية على الغرماء، في ظل حروب الوكالة الدائرة هناك؟
نهار الخميس كانت قيادة الولايات المتحدة لإفريقيا تؤكد من جديد على النشاطات الجوية الروسية عبر المقاتلات الشهيرة من نوعية "ميغ 29" و"سو 35"، الرابضة في مطار الجفرة وسرت.
يقطع الأمريكيون أن تلك الطائرات الهجومية المتقدمة جاءت من روسيا إلى الأراضي الليبية مباشرة، وإن كانت بعض الأوساط قد أشارت إلى أنها انتقلت من مطار حميميم السوري إلى ليبيا بعد عملية تمويه في ألوانها.
الكارثة التي يراها الأمريكيون تتمثل في أن من يقود تلك الطائرات طيارون مرتزقة عديمي الخبرة، ولا دراية لهم بقواعد القانون الدولي في الاشتباك والإسقاط، لا سيما بالنسبة للمدنيين في أوقات النزاع المسلح.
على الجانب الروسي وردا على الاتهامات الأميركية لم يلتزم الروس الصمت، بل باشروا هجوما مضادا معتبرين أن تصريحات قيادة "أفريكوم" ليست إلا محاولة لإثارة الغبار على الموقف الأميركي من يوم أن كانت الرائدة في التدخل العسكري وقيادة الناتو لإسقاط القذافي، ثم انسحابها من الجهود الجماعية لتعزيز التسوية السلمية، وصولا إلى المعلومات الاستخبارية التي سربها الروس قبل بضعة أيام، المتمثلة في قيام طائرات النقل العسكرية الأميركية برحلات منتظمة من قاعدة "رامشتاين الجوية" في ألمانيا إلى غرب طرابلس ومصراته، والسؤال: ما طبيعة حمولة تلك الطائرات؟
بالطبع ليست مساعدات غذائية أو طبية في دولة مشتعلة بالحرب الأهلية، ويكاد الروس أن يكتسحوا فيها القسم الشرقي وأن يعيدوا التقسيم التاريخي لليبيا عبر إمبراطوريات عديدة، بل مساعدات عسكرية تقوم وحدة خاصة من قيادة القوات المسلحة الأميركية في إفريقيا المتمركزة على الحدود الليبية التونسية بتوريعها.
هي قسمة الغرماء إذن بين الأميركيين والروس من جديد، وما مختلف الفصائل الليبية إلا بيادق يتم استخدامها من جانب القوتين الدوليتين، وبينهما يتسرب نفوذ الأغا العثمانلي الطامع في ثروات ليبيا.
على أن النظر إلى الخارطة اللوجستية في الغرب ينتج تساؤلا تلقائيا، فكيف للأسلحة والمساعدات الأميركية أن تتسرب إلى حيث توجد جماعة الوفاق، والتي هي عنوان الإرهاب الداعشي والقاعدي وكافة الجماعات التي ما أنزل الله بها من سلطان؟ وهل يتم تسريب الأسلحة الأميركية عمدا إلى هناك، حيث الأتراك يتطلعون إلى إعادة إنتاج ما فشلوا فيه في زمن الربيع الأغبر؟
أسئلة عديدة ترتفع في الأفق ضمن المشهد الليبي، لا سيما أن الصمت الأميركي يشجع دبلوماسية التهديد التركية من خلال تعزيز مطالب أنقرة غير المشروعة في منطقة المتوسط، حيث المياه الغنية بالطاقة.
من هذه الأسئلة: هل الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي اتصل بالمشير حفتر ذات مرة، مبديا دعمه له في محاربة الإرهاب في الغرب الليبي، صادق في وعده؟
يعلم القاص والداني أن ترامب كاره لجماعات الإسلام السياسي التي شجعها إلى مدى بعيد سلفه باراك أوباما، فكيف له الصمت أمام تحول ليبيا إلى بؤرة لتجمع الإرهابيين، ومن ثم انطلاقتهم الكبرى في اتجاهين، شمالا حيث أوروبا العجوز المصابة بعدم القدرة على اتخاذ قرارها، التي تراجعت سفنها عن مواجهة قطع أردوغان البحرية، وتفشى بها فيروس كورونا وسبب لها ألما فائقا، ثم جنوبا حيث الصحراء الإفريقية ودول يسودها الفساد والفقر، وهي فرصة هائلة لأن يقوم "داعش" بتجهيز دولته التي فشل فيها في العراق وسوريا.
الأسئلة المثيرة والخطيرة لا تتوارد على أذهان المحللين السياسيين فقط، بل تداعب كذلك عقول أميركية عسكرية ذات وزن عال المقدار من عينة الجنرال توماس تراسك، النائب السابق لقائد العمليات الخاصة الأميركية الذي حاورته مجلة "ذا ناشيونال إنترست" مؤخرا، وقد أبدى الرجل اندهاشة عجيبة من الموقف الرسمي الأميركي إلى الدرجة التي تسمح للمرء في غير تهويل أن يتساءل: من الذي يحكم أميركا، هل ترامب بالفعل أم شخص آخر؟
تكاد رؤية الرجل تفضح المشهد الأميركي في ليبيا، فسفارتها في طرابلس التي تتعامل مع أردوغان وتدعم الإرهاب وتسعى لبناء العثمانية الجديدة، تقر أنها فخوة بكونها شريكة لحكومة الوفاق. فهل هذه هي الازدواجية الأميركية التقليدية؟
تدرك كافة أجهزة الاستخبارات الأميركية أن الوفاق جماعة يهيمن عليها الأصوليون، وأن السراج لا يملك من أمرهم شيئا، وقد لجأ حراسه ذات مرة لتهريبه عبر أنظمة التهوية خوفا من تربص المسلحين به، وعليه فإنه لا أمل في أن يكونوا أداة لتوحيد الصفوف الليبية في أي وقت، هذا مع غياب أي رؤية لدعم الجيش الوطني الليبي الذي شجعه وباركه ترامب كلاميا.
الناظر للمشهد الليبي يكاد يقطع بأن أستانا جديدة تولد على الأرض، وتقسيما حقيقيا تجري به الأحداث في غياب الدور الأميركي، غير أن الخسائر هنا تختلف شكلا ومضمونا عن نظيرتها في سوريا، إنها ستحيق بالناتو وبالتحالف الأميركي الأوروبي، ذاك الذي صمد في وجه الاتحاد السوفيتي طوال 75 عاما.
على شاطئ ليبيا من جانب الشرق، سوف تسعى روسيا لنصب دفاعاتها الجوية على قواعد عسكرية ستضع يدها عليها بطلب من الليبيين أنفسهم، وعلى بعد 200 كيلو من أوروبا تضحى مدن القارة في مرمى الطيران الروسي العتيد وأساطيل موسكو وصواريخها.
وفي غرب ليبيا سوف ينمو على ساحل الأطلسي أيضا العداء الكائن في صدور الأتراك لأوروبا تاريخيا، ولن يألوا جهدا في إزعاج الأوروبيين بكرة وأصيلا بكل أنواع الموبقات، وصولا إلى تصدير الإرهاب لها والانتقام التاريخي منها، والثأر من زمن موقعة ليبانت وصولا إلى تفكيك إمبراطورية عبد الحميد الثاني.
حتما سيكون الصمت الأميركي إعلانا بنهاية عصر الناتو إن لم تسارع واشنطن إلى تعيين مبعوث خاص لليبيا، كاريزماتي غير تقليدي من عينة الجنرال جيمس ماتيس وزير الدفاع السابق، رجل العسكرية والإستراتيجية وصاحب الرؤية السياسية.
مربعات القوة التي نتجت عن تخاذل إدارة ترامب في ليبيا ستكون أكثر فداحة من مثيلتها في سوريا، من جراء سياسة القيادة من خلف الكواليس لباراك أوباما.
مطلوب مبعوث أميركي قادر على لجم الأغا المحتل، والتهديد بإلقاءه خارج الناتو ونقل الأصول العسكرية الأميركية من تركيا، ووقف دعم الروس للشرق لأنهم لا يسعون لمصالح الليبيين بقدر سعيهم لقلب موازين المتوسط والمكايدة السياسية والعسكرية للناتو.
كيف لواشنطن أن تتعاطى مع التركي وتتغاضى عن مصالح حلفائها الحقيقيين في المنطقة، ومشروعات الطاقة والغاز الخاصة بهم؟ عليها الاستفاقة قبل أن تتحول ليبيا من فكرة مؤجلة إلى أزمة قاتلة.