إل أين يمضي العام الجديد 2020؟ يأمل المرء أن يكون مليئا بالسلام والوئام، غير أن واقع الحال يخبرنا  بأنه قد يكون مفصليا، لاسيما  أن هناك ملفات ساخنة عديدة، تغلي على مراجل، وتكاد تنفجر في وجه البشرية.

خلال افتتاح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس،  لمؤتمر العام الأربعين لمنظمة اليونسكو، أشار الرجل إلى أن فكرة التعددية تكاد تتلاشى في العالم، الذي بات مصاباً بتصدعات خمسة،  تجعل عالمنا المعاصر إزاء مرحلة من الفراق، وليس تجاه زمن الوفاق، إن جاز التعبير.

السؤال الجوهري: "ماذا  عن تلك التصدعات الخمسة؟ وهل الأمر بالفعل يتوقف عندها، أم أن الواقع المؤلم يتجاوزها إلى  ما هو أبعد؟

وربما انتقى الرجل الأممي منها خمسة فقط، كي لا تضحى الصورة سوداوية على عتبات عام جديد.

أغلب الظن أنه أراد التركيز على  خمسة تحديات، أضحت في الجسد البشري بمثابة تصدعات، إن لم تتم مداواتها سوف تصبح شقوقاً، ثم شروخاً يصعب التئامها.

بداية هناك الخوف والصدع الأكبر الذي  يعانيه الكوكب الأزرق برمته، الصدع الآيكولوجي، أي التغير الذي حل بالمناخ، والذي يمكن أن يؤثر في  سلامة الكرة الأرضية التكتوني، لا سيما  أن ما حدث من تغيرات بيئية خلال السنوات الماضية رهيب، ومن يطالع  أوضاع الاحتباس الحراري، وما يخلفه على  صعيد جيوبولتيك العالم، يدرك تمام الإدراك أننا أمام ما هو أخطر من الانفجار النووي،  فالأرض تتمرد على  البشر،  وليس من قوة قادرة على  إخضاع الطبيعة في ثورتها، ومن غير المصدق أن ينظر إلى ارتفاع منسوب المياه في البحار والمحيطات، وما ينتج عن ذوبان الأقطاب الجليدية الشمالية والجنوبية على  حد سواء.

التصدع  الثاني الذي يلفت غوتيريس إليه الانتباه، يتعلق بفكرة العقد الأممي الذي تحدث عنه جان جاك روسو في مؤلفه الشهير "العقد الاجتماعي"، وقد بلورت الإنسانية الخارجة جحيم الحرب العالمية الثانية عصبة الأمم التي أضحت لاحقاً  هيئة الأمم المتحدة، غير أن هذا البناء  بدأ التصدع والانحلال، وصار  الانقسام واضحاً بين من يريد للأمم المتحدة  أن تمضي وراء التاريخ، وتختفي من الساحة الدولية، بعد أن باتت غير قادرة على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين، ومن يرى أن إصلاحها  هو الحل الواجب، عبر تجديد شبابها وإعادة تشكيل أركانها  وتطوير رؤاها  ومهامها ، وهذا أمر ليس باليسير في ظل التصارع الأممي المعاصر.

الصدع الثالث من أخطر ما يمكن أن تواجهه البشرية المتألمة في العقدين الأخيرين، إنه صدع  التمييز وخطاب الكراهية، وكأن التاريخ يعيد نفسه، وإن كان عوداً غير محمود،  فقد خُيل للناظر إلى الخريطة الأممية أن تيارات عنصرية كالنازية  والفاشية،  والحركات القومية المختلفة التي حفلت بها أوربا على  سبيل المثال، في  النصف الأول من القرن العشرين، قد ذهبت إلى غير رجعة، إلا أن ما شاهدناه في الأعوام القليلة الماضية حقاً  مخيف، فقد باتت أوروبا تعاني ارتفاع أصوات الكراهية، كما  تصاعدت رايات التمييز على أسس عرقية ودينية، ما يجعل النسيج الإنساني الأممي مهترئاً.

وفي الوقت نفسه، طفت على السطح من جديد في الشرق دعوات الأصولية غير الخلاقة، وتعالت صيحات الجماعات المارقة التي تستغل الأديان لتتستر في أرديتها، وقد خبر العالم المرارة والألم من جراء تنظيم داعش على  سبيل المثال مؤخراً،  ويخشى المرء أن يكون في طور التخلق جنين مشوه آخر أكثر خطورة من أنصار دولة الخلافة المزعومة، وما بين الغرب الذي بدأ يعاني اليوم عداءً للسامية، وإسلاموفوبيا، والشرق الذي يذبح على  حافة النهر بعض أبنائه، لا لجريرة إلا هويتهم الدينية، كما حدث في ليبيا، يتساءل المرء: إلى أين نحن ذاهبون؟

التصدع الرابع الذي بات الجميع يتحسب له شرقاً  وغرباً،  موصول بالثورة الصناعية الرابعة وربما الخامسة،  عطفاً على المخاطرة الجديدة المرتبطة بالتطور التكنولوجي.

اعتبر الإنسان في القرنين التاسع  عشر والعشرين، أن التطور الصناعي سيساعد في  ترقية البشر وتهيئة وسائل الرفاهية والراحة، غير أن الكل  اكتشفوا أن الثورة ربما تخدم أصحاب رأس المال، وتختصم من حقوق  العمال والبسطاء ورقيقي الحال من أقنان الأرض، كما  كان يطلق عليهم الروائي  الروسي  الأشهر ثيودور ديستوفسكي.

أما التطور التكنولوجي  فرغم أنه  جعل الإنسانية قرية صغيرة،  فإنه من جهة أخرى ظهر له أحد الأوجه السلبية، فقد باتت وسائط التواصل الاجتماعي في جزء منها ، أدوات موت وإرهاب، لا سيما  بعد أن سخرتها  جماعات إرهابية كأبواب خلفية للتعامل مع خلاياها  المنتشرة في الكرة الأرضية.

التصدع الخامس في عالمنا، هو الصراع السياسي والاقتصادي على  القطبية العالمية، والمتمثل بنوع خاص في المواجهة القائمة بين الصين القطب القادم لا شك في ذلك، والقطب القائم المتمثل  في الولايات المتحدة، وهو صراع في جانبه الاقتصادي، كفيل بأن يهز أوضاع العالم المالية  والحياتية، أما المواجهة العسكرية المسلحة، التي لا يتطلع إليها أحد، فهي كفيلة بتأكيد قيام الحرب العالمية الثالثة، إن مضت قدماً،  وهناك بالفعل مسارب ومساقات، بل ثغرات تقود إلى  ذلك منها الصراع في بحر الصين الجنوبي من ناحية، وأزمة تايوان وكوريا الشمالية من ناحية أخرى.

هل من خلاصة للتصدعات، ما هو مذكور منها هنا ، وما هو غير مشار إليه؟

يمكن القطع بأن 2020 هو عام مخاض  عسير، فيه القديم يعاني سكرات الزوال، والجديد يحاول أن يولد، القديم مرئي، والجديد غير مرئي، وبينهما تبقى الضبابية مهيمنة على مقدرات هذا العام، والفخاخ واسعة وعديدة، ويمكن أن تسقط الجميع في جب المواجهة والحرب العالمية الثالثة.

يحتاج عالمنا المعاصر إلى مزيج من الحكمة والشجاعة، لتلافي جبهات التصدع  وإعادة ترميمها.. فانظر ماذا ترى؟