الموقف من الصحراء كان منذ البدء عدمياً. أو أُريدَ له أن يكون عدمياً، انطلاقاً من رؤية مفادها أن الصحراء فراغ. وأن تكون فراغاً يعني أنها مشاع.

وأن تكون مشاعاً هو ما يبيح أن تُستباح: استباحة لا تتوقف عند حدود المباح، ولكنها تجيز اقتراف الآثام في حقها كأن تُجبَر على احتضان تجارب الإنسان في إبادة جنس أخيه الإنسان، كما هو الحال مع السلاح النووي، ولكن ليس قبل أن تُستنزف من ثرواتها الطبيعية بالطبع.

وهي تلك الكنوز التي لعبت دور البطولة في استدراج المغامرين الذين دنّسوا حرَمَها لا لإشباع فضولٍ معرفيّ، ولكن لإرواء الظمأ إلى النفع، في تلك المرحلة التاريخية التي هيمنت فيها برجوازيات أوروبا على عالمٍ أورثته مغامرة الشقيّ كولومبوس حمّى استطلاع خفايا المسكونة، ليضع بثمار عمله الضال هذا حجر الأساس لإمبراطورية خرجت بالأمس فقط من كُمّ تبعيّة استغرقت ثمانية قرون، ليكون عمله السبب في إفناء مئات الأمم التي استوطنت شقّ المسكونة ذاك الذي استخفى عن الأنظار منذ الأزل.

فالغاية من استكشاف قارة كالصحراء الكبرى مثلاً كان الحجّ الى حرم الغنيمة في الأساس. أما تجريد الصحراء من تاريخها، كما نرى في الأدبيّات الأوروبية، فمكيدة أخرى لمحو هوية الصحراء الحقيقية، المبثوثة في منظومة قيمها، لكي يتيسّر استصدار ترخيص أخلاقي لتغريبها عن واقعها، تمهيداً لامتلاكها، بوصفها العدم. ومعاملة الصحراء كعدم كان بمثابة الشهادة الأخيرة على وفاتها، أما المخلوقات التي تسكنها فهي مجرّد أشباح، أو مجرّد أطياف تهيم بهم في متاهة اللامحدود.

هذه النزعة العدميّة التي أحسنت البرجوازية الأوروبية حبك نسيجها، كي تُقنع أخيارها، وتبرّر نواياها النفعية في حق القارة الشقية، هي النزعة ذاتها التي ورثناها في أدبياتنا، وأقنعتنا بها أوروبا، ولم نكن لنتحوّل في اللعبة ضحايا إلا لأن العقلية الاستعمارية أتقنت تسويقها، إلى الحد الذي استطاعت فيه أن تقنعنا بها، نحن أصحاب الشأن، كي نفقد الثقة في أرضٍ هي لنا وطن، فنتنازل طوعا عن هويتنا، لنستعير هوية الأشباح التي استنزلوها في حقّنا بديلاً لهويّتنا كسلالة صحراء.

وأحسب أن هذه القناعة هي ما حدّد تجربتنا في علاقتنا بأمّنا الصحراء، فبدأت مسيرة تنكّرنا لها، لتكفّ عن أن تظلّ أمّاً، كما كانت في زمن القيم التي ورثناها عن أسلافنا القدماء، لتنصّب العداء بيننا وبين الصحراء، فلا نخجل من رجمها بذات الأوصاف التي يرجمها بها الدخلاء.

ولم تكن العقلية الاستعمارية لتتمكّن من محو هوية الصحراء بدون أن تشطب من ذاكرة الأجيال بعبعاً اسمه: تاريخ الصحراء.

فالرهان في الحملة كان على النيل من كينونة التاريخ، أو التغنّي بالعدم كتميمة تنفي وجود التاريخ، لأن هوية المكان، أو هوية الصحراء كمكان، إنما تسكن الماضي كذخيرة مكان، كذخيرة روحية تبرهن على حضور هوية في المكان، لتبقى هوية ليس لنا إلا أن نعترف بها مهما استعارت أبعاداً ميثولوجية، يقيناً منّا بأن المسوح الأسطورية ما هي إلا ثروة منسيّة، وهي وحدها المفوّض الشرعيّ الذي من حقه أن نحكّمه في شأن الحقيقة التاريخية للمكان، لأنه لن يعدم البرهان في استنطاق الثروة الميثولوجية لتتجلي كواقع تاريخي اغتنمه وباء الأمم البريّة وهو النسيان.

فالسؤال الذي لا نطرحه على أنفسنا في حمّى اعتناقنا للعقلية التي تغرّب الصحراء عن هويتها كوطن تكوين، هو: كيف تكون الصحراء عدماً إذا كانت قد احتضنت يوماً أقدم الحضارات؟ كيف تكون الصحراء عقما إذا كانت قد أنجبت من صلبها الديانات؟، ذلك أن التحدّي يبدأ من هذا البرزخ؛ لأن التجربة دلّلت على أن الأحجية إنما تسكن في البُعد الذي أخفته عنّا الصحراء، وليس في المدى الذي كشفت عنه الصحراء.

فالحضارة ليست حكراً على العمران، ولكن الحضارة إفرازٌ روحيّ. هذه الروح التي كانت لها الصحراء تجسيداً دوماً، بحيث نملك الحق في أن نقول إن الصحراء هي روح الحرف الذي اغترب، روح الطبيعة التي تنكرت لنفسها فاغتربت عن هويتها.

وهو الاغتراب الذي فرض على إنسانه أن يحترف الترحال. إنسان حمل قيم المكان الأخلاقية والجمالية والوجودية على منكبيه وانطلق بها ميمّماً صوب الأفق، يقيناً منه بأن القيم هي الغنيمة الوحيدة الجديرة بأن يحاجج بها الأمم.

يمضي حاملاً في الجعبة مكانه، ليسير معه في الركاب زمانه أيضاً. زمانٌ يستعير خصاله من طبيعة المكان، المغترب عن المكان.

بميزاته التقليدية، لأنه المكان المتنكّر للمكان، فيتمرّد الزمان أيضا عن سجيّته كزمان، لتسري في شرايينه الذخيرة الميثولوجية، المعادية بطبيعتها لقسمتنا الأرضية في حق الزمن. القسمة التي تشطر الزمن ثالوثاً مترجما في حرف الأمس واليوم والغد، لأن زمن الأسطورة لا يعتنق غير الأبدية ديناً.

فبتأمّل ختم هذا الجلّاد، في واقع الصحراء البيئيّ، لن يستعصي علينا اكتشاف غياب مفعوله، حيث يغترب التغيير، كناموس وجود، فيتغنّى الواقع بأنشودة التحدي. يتغنى بحصانة لا تقتصر على مظهر الصحراء الطبيعي، ولكنها تعلن عن نفسها في المفاهيم التي يرجع لها الفضل في تشكيل الوعي. وعي الإنسان البرّي الذي لا يعترف لنفسه بالانتماء إلى مسقط الرأس هذا، ما لم يفلح في استدعاء الصحراء كي تسكنه، تماماً كما سكنها، لتكتمل الصفقة في تماهٍ مستنزل في مسام الهوية.

ففي الصحراء حسب يتوقف الزمن ليلتقط أنفاساً، كأنه يستجيب لنداء فاوست في احتفائه بـ" لحظة العجب"، فيحقق المحال في واقعٍ، الخلود فيه رهين الموت. ففي هذه الوقفة، المختزلة لأبعاد الزمن الثلاثة، ينطبع إيماء الأبدية.

ينطبع ليطبع. يطبع الواقع الحرفي، الجغرافي، بلمسة مستعارة من عهد التكوين، فتتنفّس فيه الأسطورة، فتفيض من موقعها كعلامة في بُعد الطبيعة الصحراوية الحرفيّ، لتسري في واقع الصحراء الروحي أيضا. فكما يتوقف الزمن ليلعب دور شاهد العيان، كذلك يهرع التاريخ لنجدة الذخيرة التي أسفر عنها التجريب، ليستثمرها في طيات شرائح، تخضع لصنوف التحنيط، قبل أن يستودعها قيعان الذاكرة المركبة التي تحتال على آفة النسيان بفنون التّورية.

وعلّ ترجمة الوصايا المكتسبة في الممارسة السلوكية عبر الأجيال هو أسلوب آخر لافتداء القيمة المهدّدة. أما الأسطورة، في الصفقة، فليست ضرباً من كلم، كما يتوهم البعض، وليست مجرد أحاجٍ أيضاً، ولكنها الكنز المستتر الثري الذي يستوجب منّا كأخلاف ذلك الاستجواب الذي لن نضمن ألّا نقترف في حقّ الماضي خطيئة لا يغتفرها لنا الحاضر، ولا المستقبل، في حال استهنّا به. بل الواقع أن الأسطورة هي التي تستعطفنا كي نتنازل عن استكبارنا، فنحلّ في رحابها.

الفراغ الذي نحسبه سبباً لمشاعٍ يُخفي بُعداً غيبياً قادراً على الانتقام منّا في حال تجاسرنا على انتهاك حرمته. فهو، بما أنه حرية، يتكتّم على قوّة قدسية لا تُقهر. هذه القوة القدسية هي سر موهبة الصحراء في إنتاج النبوّة من دون كل أركان الطبيعة الأخرى؛ لأن لا وجود لغنيمة أمنع منالاً من النبوءة. هذه النبوءة التي كان الفراغ الصحراوي لها وطناً منذ الأزل، ومازالت ملاذاً لكل مريد عزلة: العزلة كمنزلة أولى في سلّم التجلّي لاستطلاع كل إلهام من شأنه أن يقود إلى سدرة المنتهى حيث تهيمن البُغية. تهيمن النبوّة.