لن يكون هذا المقال استثناءً عمّا كُتِبَ ويُكتب عن هروب كارلوس غصن من اليابان. العديد من اللبنانيين على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي تفاخروا بأن الدولة الأكثر تطوراً في العالم هزمها لبناني!

المضحك أنّ اللبنانيون يُفتشون عن بطولات وهمية تُنسيهم هزائمهم الداخلية من طائفية وانقسامات حزبية وتحركات غوغائية، وسياسيون فاسدون لا يزالون يُحركون "زعرانهم" على الأرض في استعراضات مضادة للعضلات وانعدام التفكير.

وأقول وهمية لأن ظاهرها مسلّي، وباطنها مسيء لقضيته بالدرجة الأولى، وللعلاقات بين لبنان واليابان في حال أرادت اليابان تقديم طلب استرداده، أو اعتقاله عبر الإنتربول.

لكن المهم للشعب هنا، أن هذا "المخ" من بلادي، الذي وُلِدَ في البرازيل وترعرع في لبنان ودرس في فرنسا سطَّرَ انتصاراً كبيراً على دولة متقدمة…. وأي انتصار!

لمن لا يعرف كارلوس غصن، فهو رجل يحارب حتى آخر نفس، عنيد، ولديه إصرار عجيب.

التقيت به مرتين في السابق، وفي المرتين أعطاني نفس الانطباع: هذا الرجل لا يمكن أن يستسلم بسهولة.

عندما كنت في اليابان منذ شهرين، التقيت بصديق مشترك كان يُخبرني كيف يقضي غصن أيامه بانتظار المحاكمة التي كانت السلطات اليابانية تُمعن في تأجيلها، ولربما عن قصد.

هذا الرجل تم توقيفه بطريقة مسرحية مرتين وكأنه إرهابي هارب، أو شخص أفلس مجموعة شركات وفرَّ بأموالها، وتلك كانت بداية الأخطاء اليابانية.

المرة الأولى التي أُوقِفَ فيها غصن كانت من داخل الطائرة الخاصة التي تقله على أرض المطار في اليابان.

والمرة الثانية التي جرى توقيفه فيها بطريقة مسرحية كانت من شقته إثر إطلاق سراحه المشروط أول مرة بعد قضائه 130يوماً في زنزانة انفرادية، واصطحب المحققون معهم وسائل الإعلام إلى الشقة الصغيرة التي استأجرها، وكأن الأمر خبطة الموسم.

وفي المرتين انطلقت عشرات المقالات المسيئة له والتهم العشوائية حتى من قبل أن تقوم السلطات بتوجيه الاتهامات له، مما خلق رأياً عاماً ضد كارلوس، وهو ما قد يتعارض لاحقاً مع محاكمته.

أَضِف إلى ذلك ما قاله لي زميل ياباني الأربعاء، عن استياء اليابانيين من غصن كونه خفّض نحو عشرين ألف وظيفة عندما استلم شركة نيسان شبه المفلسة، وحوّلها بعد ذلك إلى الربحية.

"في ذهن اليابانيين، هو قلّص 20 ألف وظيفة لكنه كان يتقاضى راتباً ضخماً. وتعرفين، ليلى، نحن في اليابان عندما يدخل أحدنا إلى شركة، نعمل فيها حتى التقاعد. الشركة هي عائلة. وأن تحرم شخصاً من عائلته هو أمر مؤلم. لذلك فإن الناس كانت مستعدة لعدم التعاطف معه ولتصديق ما يُقال عنه". تلك كانت كلمات زميلي.

"لكنه كان يرأس اتحاد شركات عالمي، وبالكاد كان يرتاح حتى تمكّن من إنقاذ نيسان وتقوية التحالف ومن ثم إنقاذ شركة أخرى هي ميتسوبيشي. أسلوب الرجل قاسٍ لكنه كان ضروريا وإلا لأغلقت الشركة ولخسر الكل وظائفهم. هو لم يأخذ أموال الموظفين الذين ألغى وظائفهم، ولا أعتقد أن من يضحي بوقته بين عدة قارات لينقذ شركة سيتقاضى مبلغاً زهيداً. هو ليس جمعية خيرية بالنهاية". ذاك كان جوابي.

طبعا نقاشنا انتهى مع الإستراحة القصيرة التي أخذناها، خرجت منها بتفهم أكبر لردة فعل اليابانيين تجاه غصن، ولا أدري إن كنت قد نجحت في إقناع زميلي. لعلّي أعرف ذلك في الأيام القادمة، فكلانا يتحضر لتوجيه أسئلة لغصن خلال المؤتمر الصحفي.

وعلى ما يبدو، فإنّ غصن ارتكب الخطأ القانوني الأكبر، وهو خرق شرط كفالته والذي كلّفه 13.8مليون دولار، مع مغادرته الأراضي اليابانية نحو لبنان ليتحوّل بين ليلة وضحاها إلى أحد أشهر الهاربين من العدالة بطريقة "مهمة مستحيلة".

هذا الرجل الذي أنقذ إحدى أهم شركتين يابانيتين: نيسان وميتسوبيشي من الإفلاس، وحوّلهما إلى الربحية، ووفر عليهما مليارات الدولارات، ووفر الوظائف بدلا من إغلاق الشركتين بالكامل، تتم ملاحقته الآن على أمور يراها العديد من رؤساء الشركات حول العالم تافهة.

هو أخطأ عندما تصرف وكأنه يملك الشركة، فهو ليس مؤسسها ولا يملك أغلبية حصصها، لكن السلطة تُعمي، وفي مرحلة من المراحل، تصرّف على هذا الأساس. لربما أصابه الغرور، ولربما صمت الآخرين تجاهه وتقبّلهم لتصرفاته هو ما شجّعه على المضي في حملة البذخ التي "لا تُشبه كارلوس في الماضي" بحسب أحد أقدم أصدقائه.

لكن غصن المتهم باستغلال أموال الشركة كاستعمال طائرتها الخاصة لأمور شخصية، أو أنه قام بتأثيث منازل تملكها الشركة وسكن فيها يعتبر أن هذه أفعال لا تستتبع أن يُوقف ويُسجن عليها بهذه الطريقة، فالمنازل ملك الشركة وليست ملكه.

وصحيح أنه متهم بالتهرب الضريبي كونه لم يُصرّح عن كامل تعويض نهاية الخدمة، لكنه يدافع: لماذا يدفع الضريبة عن أموال لم تكن قد دخلت في حسابه بعد؟

لا أحد ينفي أخطاء غصن القاتلة، لكن يجب ألا ينسى أحد الخلفيات السياسية لما يحدث ويؤثر في طريقة التعامل مع هذه القضية.

فغصن كان يعتزم بدء التصنيع في الصين، وهي منافسة اليابان، وهو رفض وقف قرار تصنيع السيارات في إيران، مما أثار حنق الأميركيين.

ولا يجب أن ينسى أحد أنه في حال تم الدمج الذي اعتزمه غصن بين رينو ونيسان وميتسوبيشي، فإنه كان من شأن هذا الدمج أن يخلق أكبر كيان عملاق لتصنيع السيارات يُزيح إمبراطورية جنرال موتورز الأميركية عن عرش الصدارة. أما بقية التهم التي تتعلق بإعطاء أموال لوكلاء نيسان، فلم يتم إثباتها حتى اللحظة.

لكن الأهم في سلسلة أخطاء غصن أنه لم يتوقع الطعنة في الظهر من داخل شركة نيسان، حين قام أحد التنفيذيين ممكن كانوا سيخسرون منصبهم حتما فيما لو استمرت عملية الدمج المزمعة، بإخطار السلطات اليابانية بأمر التهرب الضريبي، والذي يسأل البعض لماذا لم تُصرّح الشركة عن العقد عند توقيعه بدلاً من لوم غصن.

الرجل الذي شكا كارلوس، لا يزال يحتفظ بمنصبه، فيما غصن، الذي أنقذ الشركة هو اليوم طريد العدالة.

يخاف غصن على حياته في اليابان، فظروف السجن الذي دخل وخرج منه لا تساعد في الحفاظ على صحة جيدة، كما أنه كان محروما من رؤية زوجته ومهددا بالتعفن في زنزانته لأمور يمكن حلّها بسهولة خارج القضبان.

في هذه القضية، ارتكبت اليابان أخطاء بالجملة، بسبب التمسك بحرفية النص القانوني دون روحه، تماما كغصن، والنتيجة حرمان عالم صناعة السيارات من قيادة فذّة.