أعذروني على المقدمة الطويلة، والضرورية جداً ليفهم الجميع ما يُحس به المغترب الذي يفني عمره في الخارج ويعود إلى وطن لا يُشبه وطنه الذي تركه.

أنهيت كتابة هذا المقال وأنا معلقة بين السماء والأرض على علو آلاف الأقدام فوق المياه الإقليمية اللبنانية.

لم أعد أعرف ما كان سيكون عنوانه لو لم أنظر من خارج نافذة جاري لألقي لمحة أخيرة أخزّنها في ذاكرتي كلما سافرت.

كُلّ ما كنت أفكّر به هو إن كان سيُكتب لهذا الوطن وشعبه فُرصة أخرى. فرصة أخيرة لربما، ليكونا معاً.

نظرت من النافذة فوجدت بحراً ملوثاً بين منطقتي خلدة والأوزاعي، أذكر زرقة مياهه حتى العام 1995، وهي آخر سنة سبحت فيها هناك في مياه كانت نقية كالكريستال. اليوم باتت بنيّة اللون بسبب مكب النفايات الذي يرعاه زعيم درزي بالتوافق مع زعماء سنة وموارنة وشيعة… ومجاري المباني العشوائية لمن يُفترض أنّهم مهجرو الاحتلال الإسرائيلي الذي خرج من معظم الأراضي اللبنانية في العام 2000.

أقول ”يُفترض“، لأنه لا سبب يمنعهم من إخلاء الأملاك العامة والخاصة التي استولوا عليها وحوّلوها لعشوائيات وسط صمت الجميع في الحكم، وبحماية أحزاب تحججت وتتحجج حتى اليوم بظروف التهجير التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي والحرب الأهلية، لكي يبرروا المزبلة التي تحوّلت إليها المنطقة، تماما كما حموا من قام بسرقة رمال شواطئها الذهبية على مدى الأعوام الـ30 الماضية.

الحرب الأهلية انتهت في العام 1990… هكذا ضحكوا على اللبنانيين وقالوا لهم أن الحرب انتهت. وأتوا بميليشيات الحرب لكي تحكم فترة السلم، وعفا الله عما مضى. لكن تلك الميليشيات كرّست من المناطق اللبنانية كانتونات طائفية وحزبية ضيقة بعدما كانت كانتونات دينية أوسع.

ودّعت من نافذتي خيالاً حزيناً لجبل يقف شامخاً بلون رمادي يناشدني العودة.
هو آخر حرّاس هذا الوطن الحبيب يُعاني من حروق من الدرجة الثالثة تسبب بها عناد المسؤولين الذين رفضوا تعيين حُرّاس للأحراش والغابات لأسباب طائفية بحتة. وتسبب بها جشع المسؤولين ونهبهم المستمر للمال العام، فلم تتم صيانة الطائرات الثلاث المُعدة لإطفاء الحرائق مما جعلها تقف كخردة تُشاهد من بعيد أعمدة الدخان دون أن تستطيع الحراك.

لكن حتى تلك المسافة التي تضعها الطائرة والظروف بيني وبين وطني لا تستطيع أن تسلخ صورته الجميلة التي أحملها في داخلي.

كُتِبَ علينا نحن اللبنانيين المغتربين أن نحب وطناً بالكاد نستطيع التعرف إليه كلما عدنا، لكننا نظل نقاتل من أجله في كل المحافل، ونتألم بصمت لأن بين وقت وآخر نحس أن الوطن الذي كبرنا فيه لم يعد لنا.

هو وطن جيل الألفية الجديدة الذين ربّاهم جيل الحرب فباتت تعابيرهم متطرفة ووقحة كتعابير اليمين المتطرف.

جيل ألعاب الحرب الإلكترونية الذي يتمتع بكافة صفات العنف وصفر إدراك أن الموت في الواقع لن يُكتب به ”إعادة“ وثلاث حيوات أخرى بكبسة زر.

لم يحدث في تاريخ لبنان، منذ أيام الفينيقيين ولغاية تاريخ كتابة سطور هذه المقال أن حكم لبنان زعيم واحد أو كانت مدن هذا الوطن العتيق متحدة على الدوام.

دوماً كان لبنان مُقسّماً أو منقسماً بين مشايخ وأمراء وملوك مدن واحتلالات ومن ثم تشرذمات بين زعيم طائفة وشيخ دين ووصاية خارجية و.. و.. و...

في الماضي كانت المدن الممالك. صور، صيدا، بيبلوس/جبيل، بيروت، بعلبك وغيرها من المدن الفينيقية التي كان يحكم كل منها ملكا.

لكنها كانت ممالك تتحد في وجه الاعتداء الخارجي، وتعود للانقسام والحكم المنفرد بنفسه لاحقاً.
وتطور الأمر حتى بات الوضع معكوساً: دولة واحدة في مدن منعزلة طائفيا، ومقسمة حتى في وجه الاعتداء الخارجي.

فمدينة حزب فلان سترحب بالإيرانيين، ومدينة حزب فلان سترحب بآخرين، أما مدينة حزب فلان فلا مشكلة لديها مع الإسرائيليين، وبالطبع مدينة أحد الفلانات تدعو الله لعودة السوريين، وفلان آخر يرى في الفرنسيين خشبة الخلاص ووجه الحضارة.

لكن ولا واحد من الفلانات الحاكمين يفكر بأمر الوطن كوطن واحد للجميع.

الكل يحب الوطن على قياسه واللعنة على من يُخالف ذلك القياس.

حتى وفي خضّم الثورة التي بدأت منذ 21 يوماً، لم يتفق اللبنانيون فيما بينهم على ما يريدون لهذا الوطن الضحية إلا في أول أسبوع. لكن الطبع يغلب التطبع، وعاد الشعب وزعاماته للانقسام. كل طرف يُطالب في هذه الثورة ما يؤذي الطرف الآخر ويخدم مصالحه، ومن يشتم زعيم فلان، يرفض أن يشتم أحد زعيمه والعكس صحيح.

قد يبدو ظاهريا اتحاد الناس، لكن جولة بين المتظاهرين من أقصى الجنوب وصولاً للشمال ومرواً ببيروت والتواصل مع البقاعيين الثائرين، والاستماع لوجهات النظر المختلفة تُبيّن لك مدى التشرذم في الأفكار التي وصلوا إليها بعد 3 أسابيع. العديد منهم عاد لجلده الحزبي، ومن المعروف أن النمر لا يستطيع تغيير خطوطه.

أخاف على وطني اليوم.

أفكّر في كُل ما آل إليه الوضع وأفكّر ما قد يحدث لاحقاً!

بلد طائر العنقاء الذي يحترق ويولد من جديد كل يوم قد بات يتنفس الرمق الأخير، لكني لا أخاف عليه الموت.

هو وطن أبدي وأزلي. سأعود إليه بعد كم من يوم لأن الفراق أصعب من العودة.
كُلّي أمل وخوف.

الأمل بالولادة الجديدة، والخوف أن يكون العنقاء هم نفس الحكّام.