عندما يقود الوطن رجال أعمال، تنتفخ جيوب أهل الحكم، ويجوع الشعب، وينتهي الأمر بثورة، فولادة جديدة. هي نفسها الصورة التي رسمها الكاتب جورج أورويل في روايته الشهيرة ”مزرعة الحيوان“.

فالخنازير توظف الكلاب الشرسة لقمع الحيوانات المسالمة ومصادرة تعبهم وإنتاجهم، دون أي مقابل يُذكر، لتنتهي الرواية بثورة الحيوانات على الخنازير، واستلام زمام أمور المزرعة بالرغم من سقوط بعض الضحايا.

في حالة لبنان.. يجوع الشعب، فيخرج جزء كبير منه للمطالبة بأبسط حقوقه، فتركب أحزاب السلطة وأتباعها على ظهر الثورة لتصفية حسابات سياسية ضيقة، فيما تقوم بقية أحزاب السلطة بمهاجمة الناس وتخوينهم وتخويفهم.

هي لعبة الشرطي الجيد والشرطي السيئ.

هي مسرحية من عدة فصول لم نصل إلى نهايتها بعد، لكن النتيجة اتضحت منذ اليوم الثالث: مُصادرة للثورة وتسخيف صورتها، ومن ثم تخوينها، ومن ثم ضربها. بعد ذلك تأتي استقالة صورية، وتخويف من الفوضى عبر نشر الأحزاب لرعاعهم في الشارع، منهم من يعتدي ومنهم من يطلب هويات على حواجز نُصِبت فجأة، ومنهم من يُغلق مناطقه بوجه الجميع.

ومن ثم يعود الفساد بصورة المُخلّص.
فهل سيسكت اللبنانيون مجددًا؛ مخافة عودة الحرب الأهلية التي لوحت بها الأحزاب، فيما لو حاول الشعب محاكمة الزعماء الفاسدين بتهمة سرقة الدولة؟

المضحك المبكي أن كل الأحزاب مُمَثَّلَة في السلطة فعلياً، من مجلس نواب إلى مجلس الوزراء إلى وظائف الدولة بفئاتها كافة.

وفي وقت هتف فيه اللبنانيون ضد فساد كل أهل الحكم، كانت قمة السخرية تتمثل في خروج أتباع بعض أحزاب السلطة، بأوامر من زعمائهم للمشاركة في الحراك الشعبي، ليهتفوا بسقوط أحد خصومهم داخل السلطة، التي هم أساساً جزء منها. ومن المفارقة أن هناك رموزًا للفساد تحكم منذ سبعينات القرن الماضي، لم يتناولها أحد في تلك الهتافات التي تضمنت بذاءة موصوفة.

وعندما تُحاور مناصري تلك الأحزاب التي لم تُشارك إلّا لأن زعيمهم طلب ذلك، يردّون عليك: ”كلن (كلهم) فاسدين“ ثم يبررون لزعمائهم ”إلّا هُم“.

مخجل نزولهم إلى الشارع لتصفية حسابات سياسية ضيّقة لا علاقة لها بالمطالب الشعبية الأساسية. لكن لا هَمْ إن جاعوا هُمْ، المهم ألّا يجوع الزعيم.

1- هاج الشارع، فصمتت السلطة، ثم نطق بعض أفرادها فوضعوا اللوم في مآسي الدولة المالية والاقتصادية والسياسية على كل شيء إلّا هُم.

ولولا بقية عقل فيمن يكتب خطاباتهم، لكان لام القدر أيضاً.

أرادت الحكومة فرض مزيد من الضرائب، فوقف الشعب في وجه سلطة توارثها الأبناء عن الآباء، وحافظوا على نهج الهدر والفساد.

ثار اللبنانيون على عقود من السرقات والمحسوبيات في بلد مشكلته الأزلية هم زعماء أحزابه وزبانيتهم. مشكلته في تفنن أحزاب السلطة في فذلكة دين عام قارب ٩٠ مليار دولار بقيادة وزراء معظمهم ليسوا من أهل الاختصاص المتعلق بمناصبهم، حيث إن لم تكن من جماعة فلان، أو تابعاً لعلّان، فلن تفوز بأي مناقصة أو وظيفة.

الإخراج الركيك لمهزلة السلطة الحاكمة وكل الأحزاب المنضوية تحتها في محاولاتهم اليائسة للحفاظ على مكتسباتهم ومراكزهم وحصاناتهم التي تقيهم شر السؤال: ”من أين لك هذا؟“، فشل في حجب الحقيقة بأن الوطن نزف وحيدًا، ومن ثم تخلى عنه شعبه في اليوم الثالث عشر. 

نحس الرقم 13 كان أقوى من الشعب، فاستلم الشوارع أتباع الأحزاب، وبات المتظاهرون الأساسيون أقلية وسط الفوضى الممنهجة، التي كانت نتيجتها المدروسة جيدًا استقالة مسرحية لرئيس الحكومة سعد الحريري.

الحريري حاول أن يلبس قناعًا جدّيًا، ورسم بفرشاته الوهمية صورته كضحية مغلوب على أمرها، بالرغم من شغله في القيادة، فانتفض أتباع حزبه. كانوا ينتظرون الإشارة فقط.

قبل نزول أتباعه من تيار المستقبل، نزل إلى الشارع أنصار الثنائية الحزبية الشيعية حركة أمل وحزب الله مفتولو العضلات، الذين تحججوا بمسألة قطع الطرقات ليقوموا بالاعتداء ضربًا ولفظًا على النساء والشباب والصحفيين المعتصمين بين جسر الرينغ وساحة الشهداء، ولم تنفع جهود قوى الأمن الداخلي بوقفهم مباشرة.

أولئك الجائعون الذين يضربون الجائعين، يُدافعون عن أحزابهم الغارقة في الفساد، ويجدون تبريرات لزعمائهم من منطلق الكل فاسد، ”إلّا هُم“.

لكنّها كانت مسرحية لإعطاء الحريري العذر الكبير للاستقالة.. أو لربما لإفهامه أنهم سيقومون بالواجب في حماية عرشه وعروشهم.

2- رفضت السلطة التزحزح لـ12 يومًا، وفي اليوم الثالث عشر استقالت الحكومة. ثم ما لبث أن سقط قناع الحريري الجدّي ليظهر باسمًا في منزله في ”بيت الوسط“، هناك في المنطقة حيث بكى الناس عندما صادر والده أملاكهم وأملاك الدولة ليضمها إلى شركة خاصة. وما لبث أن ظهر الخبر في وكالة رويترز أن لا مانع لدى الحريري لتولي رئاسة الحكومة مجددًا بشرط تشكيل حكومة تكنوقراط.

كانت مسرحية. فبرأيي لا أحد يتخلى عن الأوزة التي تبيض ذهباً ولا عن الكرسي الذي يُعطيه الحصانة.

لا أحد يعلم لماذا انتظر كل هذه المدة؟ فلربما كان ”الشيخ سعد“ كما يناديه أنصاره، يُعوّل على تصديق الشارع لكلمته الأولى، عندما أمهل أحزاب وزرائه 72 ساعة لتقديم ورقة إصلاح. أيّ إصلاح يأتي في 3 أيام وأنتم فشلتم في تحقيق أي إصلاح في 3 سنوات؟

(ملاحظة هو تولى منصبه في 18 ديسمبر 2016). واليوم يعوّل على من دعم استمرار وجوده في السلطة على ما يبدو.

أما الأمين العام لحزب الله الذي دعم نصف ثورات المنطقة خارج حدود بلده، فقد خذل المتظاهرين مرتين ببضع كلمات. قال أول مرة إنه يفهم مطالب الشعب المُحقة، لكن حزب الله لن يؤيد استقالة الحكومة.

هكذا ببساطة دعم الحزب استمرار الفساد مستخدمًا بُعبُع المجهول والفوضى. وعندما لم يترك اللبنانيون الشارع وانتقدوه، نزل أنصاره للمرة الأولى فضربوا المعتصمين في ساحة الشهداء.

خرج نصر الله مرة ثانية لتخوينهم والتشكيك بصحة الحراك فهاج المتظاهرون، وما لبث أتباعه أن فسروا كلماته أنه يعني المندسين وليس الجميع.

وفي المقابل حافظ أقدم زعماء أحزاب السلطة، رئيس مجلس النواب، رئيس حركة أمل نبيه برّي ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط على صمتهما، ما خلا بيانات صدرت عنهما أو كلمات مقتضبه لوسائل إعلامية. لم يتوجهوا للشعب مباشرة. لكن كلاهما يرأس حزباً مسلحًا وقادرًا على إغلاق مناطقه وشوارعه عند الطلب. كلاهما يتهمهما الشعب بتغطية الفساد والنهب، فأين هُما؟
أتباعهما أيضاً يقولون: إلّا هُم.

3- أجزاء التراجيديا اللبنانية لم تكتمل بعد. والتراجيديا من خمسة فصول عادة.

بدأت المسرحية في بداية السبعينات بفيلم أميركي طويل قيل إنه انتهى في عام ١٩٩٠ بإعلان نهاية حرب أهلية ضروس.

الفصل الثاني كان في استلام زعماء ميليشيات تلك الحرب السلطة من مبدأ ”عفا الله عمّا مضى“ ليؤسسوا أكبر عملية نصب مشرعن في تاريخ لبنان: وَهْمُ إعادة الإعمار. هذا الفصل شهد أبشع فصول اغتيال لبنان وشعبه ماليًا واقتصاديًا من مصادرة الأملاك العامة والخاصة لصالح من في السلطة، وليس لصالح الدولة. كما تم القضاء على الطبقة المتوسطة التي هي العمود الفقري في أي اقتصاد، ومراكمة الديون بحجة الإعمار، فيما تراكمت الأموال في جيوب المسؤولين.

الاحتلال العسكري السوري للبنان خلال تلك الفترة، والذي تلطى في وجوده تحت شرعية غير مشروعة، منحها إياه اتفاق الطائف، خرج من لبنان في عام ٢٠٠٥ مع اغتيال مؤسس السلالة الحريرية في لبنان، فتنفس اللبنانيون حرية زائفة ليبدأ الفصل الرابع مع حلم بلبنان جديد، سرعان ما اغتالته إسرائيل بعدوانها في عام ٢٠٠٦، وخروج الثنائية الحزبية الشيعية المسلحة إلى شوارع بيروت في مشهد أعاد ذكرى الحرب الأهلية للوطن في عام ٢٠٠٨. وتوّج هذا الفصل بوصول قائد للجيش لرئاسة الجمهورية، فشل في كل شيء لكنه نجح في جعل الشعب يسأله: ”من أين لك هذا“.

ونعيش الآن أحداث الفصل الرابع، لكن لا تزال أمامنا عشرات المشاهد قبل أن يقرر المخرج نهايته. فهل سنتجه نحو ولادة جديدة وفصل خامس يُسدل الستار على مآسي لبنان؟ أم ستتكرر الأسطوانة المشروخة نفسها لتُعمِّق جراح هذا الوطن.

إحساسي يقول: إن لبنان العنيد سيكتب فصولاً جيدة في مسرحيته التي لن تنتهي عملًا بقوانين كلمات أغنية السيدة فيروز الخالدة ”رح نبقى سوا“:
"عَ منديلك إمي عَ بواب البيوت،
عم بكتب يا وطني الوطن ما بيموت.
و إنت إنت،
من يوم اللي كنت،
رسمتك سنابل، شهدا وحمام
رسمتك يا وطني، وطن السلام.
من إيدين الفقرا وشباك الصيادين جايي الحرية
و من الشمس المحفورة بعيون المظلومين جايي الحرية
و من الحق الضايع
إلا من الشوارع
من شهدا الأرض اللي ماتوا للأرض
وجوهن منسيي
جايي النصر و جايي الحرية".