أنهي بابا الفاتيكان فرنسيس يوم أمس الأحد زيارة غير رسمية لكن لافتة إلى فرنسا، قادته إلى مدينة مرسيليا الواقعة جنوبا على شاطئ البحر الأبيض المتوسط.

وتتميز المدينة بكونها ثاني أكبر المدن من حيث عدد السكان بعد العاصمة باريس. ويحفل نسيجها السكاني بالتنوع الإثني، والثقافي، والديني. أما موقعها على الضفة الشمالية للمتوسط فيجعلها معنية بمسألة الهجرة غير الشرعية، في ظل ما تشهده أوروبا منذ عقدين أو أكثر من موجات نزوح كبيرة عبر البحر قادمة من شواطئ الضفة الجنوبية. وهذه غالبا ما تنتهي بحوادث غرق دراماتيكية.

يذكر ان البابا فرنسيس الذي انتخبه مجمع الكرادلة الكاثوليك في حاضرة الفاتيكان عام 2014، لم يسبق ان قام بزيارة للعاصمة العاصمة الفرنسية. هذا في وقت تُعتبر فرنسا على الرغم من نظامها العلماني دولة "كاثوليكية " بالمقاييس العددية، كون غالبية الفرنسيين يتبعون المذهب الكاثوليكي. من هنا مثل اختيار البابا فرنسيس مدينة مرسيليا لتكون أول مدينة يزورها في فرنسا رسالة قوية من الفاتيكان بالنسبة إلى تحدي الهجرة الكبير الذي تشهده ضفتا البحر الأبيض المتوسط. لاسيما ان البابا يدافع منذ سنوات طويلة عن موقف معارض لسياسات التشدد في استقبال المهاجرين أو اللاجئين في دول أوروبا التي تشهد تحولات في سياساتها الداخلية ناجمة عن وصول مزيد من أحزاب يمينية متشددة إلى السلطة.

ومن المهم أن نشير إلى أن البابا فرنسيس دعا ويدعو باستمرار إلى منح تسهيلات لدخول المهاجرين إلى أوروبا، معتبرا أنهم "ليسوا غزاة "، وأنه يجب فتح الحدود والأبواب أمامهم، مشددا على الابتعاد عن اعتبار الغرقى الذين يركبون البحر في قوارب "أحداثا عابرة وأرقاما، بل إنهم حيوات تكسرت وأحلام قضي عليها“. كما ويركز على ضرورة نبذ ما يعتبره "عولمة اللامبالاة"! كل هذا في وقت بدأت عدة دول ومن بينها فرنسا بإقرار قوانين أكثر صرامة فيما يتعلق بقبول دخول مهاجرين إليها.

ووفق الأرقام فإن عدد الغرقى من المهاجرين المصنفين بأنهم غير شرعيين بلغ خلال عقد من الزمن حوالي 35 ألف شخص بينهم نسبة كبيرة من النساء والأطفال. أي ما نسبته حوالي 10 في المئة من إجمالي الأعداد التي استخدمت القوارب والمراكب انطلاقا من شواطئ تونس، ليبيا، تركيا، والمغرب، ووصلت إلى شواطئ أوروبا. ففي العام 2023 ولغاية شهر أغسطس الماضي، وصل إلى أوروبا أكثر من 180 ألف مهاجر عبر البحر. توفي منهم حوالي 2500 شخص معظمهم غرقا.

هذه الأرقام اعتبرها البابا فرنسيس صادمة، إلى حد أنه تحدث في مرسيليا واصفا البحر الأبيض المتوسط ومأساة المهاجرين بهذه الكلمات: "هذا البحر المهيب تحول إلى مقبرة كبرى حيث تدفن الكرامة الإنسانية"!

لكن ومع أن البابا أراد من زيارته مرسيليا أن تكون مناسبة للإضاءة على أزمة المهاجرين غير الشرعيين، ومأساتهم من الناحية الإنسانية، فيما يحاولون الهروب من شظف العيش في بلدنهم الأصلية إلى أوروبا للبحث عن حياة جديدة، ومستقبل واعد. فإن مزيدا من الأصوات ترتفع في أوروبا منتقدة ما تعتبره تراخيا من الحكومات إزاءهم. وثمة شرائح من المجتمعات الأوروبية ميالة إلى الأحزاب اليمينية تعتبر ارتفاع عدد المهاجرين خطرا وجوديا على ثقافاتها وهوياتها الوطنية والأوروبية. وفي هذا السياق وعلى خلفية ارتفاع أعداد الواصلين بالمراكب إلى جزيرة لامبيدوسا الإيطالية الصغيرة التي تبعد أقل من 150 كيلومترا من شواطئ تونس، سارع الاتحاد الأوروبي مؤخرا إلى إقرار خطة تقوم على تشديد الرقابة على حدود أوروبا الخارجية، ورفع مستوى التعاون مع "بلدان الممر"، أي ليبيا، تونس. وتوقيع اتفاقيات مع كل من مصر، والمغرب. وتقديم مساعدات مادية لقاء تشدد هذه البلدان في منع انطلاق الموجات المهاجرة من شواطئها. وهنا لا نستبعد أن يضاف لبنان إلى لائحة الدول التي ستستفيد من المساعدات بعدما تفاقمت أزمة النزوح السوري إليه. وزادت نسبة محاولات ركوب البحر على متن قوارب نحو أوروبا.

لقد مثلت زيارة البابا فرنسيس إلى مرسيليا مناسبة لرفع لواء استيعاب المهاجرين إلى أوروبا والترحيب بهم وتغليب البُعد الإنساني والأخلاقي. لكن سيكون من الصعب جدا أن يتلقف المزاج الشعبي الأوروبي هذه الرسالة بإيجابية. فلقد أصبحت الهجرة شرعية كانت أم غير شرعية، ومع صعود اليمين المتشدد، جزءا من الصراع السياسي في أوروبا. وموازين القوى تميل بقوة إلى معسكر التشدد!