مع مرور ما يزيد على 110 أيام على حرب عزة بين اسرائيل وحركة "حماس"، ومثلها تقريبا على بدء حرب "المناوشات" انطلاقا من جنوب لبنان مع إسرائيل، بدأت الأرقام التي تخرج من الدوائر الإغاثية في لبنان والوزارات المختصة تكشف عن حجم الأضرار التي أصابت منطقة الجنوب اللبناني جراء المناوشات التي أطلقها "حزب الله" بعد يوم من عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر الماضي.

حتى الآن يصر المستوى السياسي اللبناني الرسمي على وصف الحرب الدائرة في الجنوب اللبناني بين "حزب الله" وإسرائيل، بالمناوشات أو حرب الاستنزاف المحدودة. لكن مع الوقت تتكشف كارثة تصيب أبناء المناطق الحدودية الذين يعانون من أزمة إنسانية حقيقية على مستويات كبيرة مقارنة بطاقة لبنان على التحمل ماليا أو اقتصاديا أو اجتماعيا.

بداية بعض الأرقام: فقد بلغ عدد النازحين من بيوتهم وقراهم ما يزيد على 90 ألفا نصفهم من النساء، كما بلغ عدد القتلى بين مسلحين تابعين لـ"حزب الله" والمدنيين أكثر من 200 شخص. وقد تعرض أكثر من 260 منزلا للتدمير الكامل، فيما تضررت أكثر من 6 آلاف وحدة سكنية. واحترقت جراء القصف الإسرائيلي أراض زراعية تعدت مساحتها 660 هكتار، وتهدمت 300 مزرعة مواش ودواجن. إلى ذلك أقفلت 50 مدرسة رئيسية بعد النزوح الكبير لغالبية سكان القرى والبلدات الحدودية بين لبنان وإسرائيل.

ما تقدم يشير إلى أن لبنان الذي استدرج بقرار منفرد من "حزب الله" الى حرب على الحدود مع إسرائيل، تحت شعار "وحدة الساحات"، بدأ مع الوقت يراكم الأضرار الفادحة لاسيما داخل البيئة المؤيدة تقليديا لـ"حزب الله". هذه الأضرار المادية والإنسانية كبيرة مقارنة بحجم لبنان، بمساحته، وبقدراته.

وعلى الرغم من طغيان سياسة كم الأفواه المعترضة في المناطق الجنوبية الحدودية مع إسرائيل، فإن حجم الأضرار بدأ يثير قلقا موازيا للقلق السياسي الناجم عن انفرد فريق مسلح في لبنان بمصادرة قرار الحرب والسلم، وإشعال حرب لا تزال حتى الآن محدودة، لكن ليس مستحيلا أن تتدحرج في أي وقت لتتحول إلى حرب واسعة وشاملة. وقد بدأت تشبه كثيرا الحرب.

نحن إذا أمام أزمة في لبنان تتفاعل على مستويين: الأول سياسي ووطني يعود إلى قيام "حزب الله" بوصفه ذراعا إيرانية بشن حرب انطلاقا من لبنان تطبيقا لفكرة "وحدة الساحات"، وذلك خارج مؤسسات الدولة من حكومة ومجلس نواب، وبعيدا عن أي شكل من أشكال التشاور السياسي بين مكونات بلد تعددي، مجتمعه متنوع ومركب. وتنجم عن الحرب التي نتحدث عنها أضرار كبيرة تلحق بمواطنين لبنانيين، وأخطار كبيرة جدا يتعرض لها لبنان بأسره مع تزايد احتمالات تفاقم حدة المناوشات وتحولها إلى حرب حقيقية. هذا يسمى توريطا خطيرا للدولة والشعب.

أما المستوى الثاني، فمتعلق بالأضرار اللاحقة على عشرات الآلاف من المدنيين الذين اضطروا إلى النزوح من بيوتهم وقراهم. والأضرار اقتصادية، معيشية كبيرة ومتراكمة. كما أن الأضرار التي لا يتحدث عنها أحد تصيب بشكل غير مباشر بقية المناطق اللبنانية البعيدة نسبيا عن الجبهات، حيث الشعور المتنامي بانعدام الأمان، وبالخوف الدائم من احتمال نشوب حرب مدمرة، تجهز على ما تبقى من بنى تحتية لم تطلها آثار الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي ضربت لبنان في الأعوام الأخيرة. كل هذا مؤداه تعميق الجمود الاقتصادي وبسبب عمق الشعور بأن لبنان بلد يعيش دائما وأبدا على حافة الهاوية.

وإذا ما أضفنا إلى المشهد المقلق جنوبا، أزمة الشغور الرئاسي منذ أكثر من 15 شهرا، والتعثر الحكومي بسبب وجود حكومة تصريف أعمال غير مكتملة الأوصاف والصلاحيات، وتعطيل دور مجلس النواب الوطني من خلال منعه من مناقشة قضايا مصيرية مثل خطر توريط البلاد في حرب شاملة مع إسرائيل رغما عن أنف الغالبية العظمى من الشعب. نجد أن لبنان يشبه إلى حد بعيد البلد المختطفة إرادته بفعل غلبة السلاح والعنف السياسي الممارس ضد من يعارضون زج لبنان في حروب الآخرين.

لكن العنصر الأكثر خطورة يتمثل في الانزلاق المتواصل لمسؤولين كبار في الحكومة بدأوا يطلقون مواقف مؤيدة لاستراتيجية "وحدة الساحات" ملتحقين بذلك بحروب "الذراع الإيرانية" في لبنان التي لا تنتهي.