منذ العام 2007، تُطرح باستمرار قضية "التعددية القطبية" ونهاية "العصر الأميركي" في النقاشات الخاصة بالسياسة الدولية، وصولا لذروة تأجج هذا النقاش بعد شن روسيا حربها الأخيرة على أوكرانيا، وتنامي القومية الصينية في ظل حكم شي جين بينغ، وما يصفها الكثيرون بـ"انتفاضة" بلدان الساحل وغرب إفريقيا على النفوذ التقليدي الفرنسي، وصحوة المهزومين من القوى الإقليمية الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية.

على سبيل المثال، ألمانيا واليابان، حيث خصص كلا البلدين ميزانيات ضخمة لإعادة تسليح جيوشهم.

بينما يتراجع دور الأمم المتحدة بشكل مستمر، يتنامى في المقابل دور المنظمات الإقليمية والعالمية مثل مجموعة بريكس، ومنظمة شنغهاي للتعاون، والتحالفات الدولية متعددة الأطراف مثل الحوار الأمني الرباعي (كواد)، ومعها مشاريع أمنية واقتصادية وممرات تجارية جديدة، وكلها إشارات يستدل بها أصحاب نظرية "التعددية القطبية" على أنها تعمل في هذا الاتجاه.

الحلم الصيني

بدت الصين، السند الأكبر الذي يستشهد به أصحاب نظرية "التعددية القطبية" في ظل ما تمثله من تحدي مزدوج للولايات المتحدة، على المستويين الاقتصادي والجيوسياسي، وهو ما ظهر بوضوح بعد الإعلان عن مشروعها الطموح "مبادرة الحزام والطريق" عام 2013، وتنامي الخطاب القومي مع التذكير في الوقت نفسه على ما يسمى "قرن الذل"، لتعبئة الرأي العام الداخلي، وسط تخلي شي جين بينغ، عن مجمل السياسات الإصلاحية لدنغ شياوبنغ.

رغم النهضة الاقتصادية الكبرى للصين، إلا أن النظر عن قرب لأوضاعها الداخلية ومحيطها الإقليمي قد تُنبئ بأشياء غير سارة للمعتقدين بقدرتها على قيادة قطب عالمي مقابل الولايات المتحدة.

اهتزاز منظومة السلطة

يقوض شي جين بينغ، النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، الذي عمل على بنائه بعناية دنغ شياوبنغ بالفترة من (1978-1992). بحسب يالنغ تان، مؤلفة كتاب "استراتيجيات الدولة الصينية في النظام الاقتصادي الليبرالي" يتألف الحزب الشيوعي الصيني من حوالي 90 مليون عضو "يتمتعون بمجموعة واسعة من الخلفيات والآراء، بينما تُشرف الحكومة المركزية على أكثر من 30 منطقة ومئات المدن وآلاف المقاطعات".

نتيجة لهذا التنوع حافظ النظام الذي أسسه شياوبنغ، على التوازن المطلوب لتنسيق السياسات وتنفيذها وإنفاذها في جميع أنحاء البلاد في ظل تمتع الحكومات دون الوطنية "ذاتية الحكم" بسلطة تقديرية واسعة بشأن كيفية إدارة اقتصاداتها المحلية، وكذلك تنظيم العلاقة مع الجيش.

بناء النظام الصيني وسر نجاحه إلى حد كبير، قائمًا على هذا التوازن، والمنافسة بين المحافظون ورؤساء البلديات مع جيرانهم لإنتاج معدلات نمو أعلى مع التمتع باستقلالية كافية لسن المبادئ التوجيهية بشكل انتقائي وتفسيرها وصولاً إلى تعطيلها حتى لو صدرت بأمر أعلى من بكين، حال لم تكن تتناسب مع مصالحهم الاقتصادية، وهي الظاهرة التي تسمى بسلطة "بارونات الأقاليم".

الرئيس شي، المشبع بالروح القومية، والأقرب لنهج القيادة المنفردة على غرار ماو تسي تونغ، يبدو أنه قد ضاق ذرعًا بهذا التوازن الذي كانت تتولى فيه اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني في بكين إدارته، وهو ما دفعه لمحاولة تغيير كامل النظام، عبر تعديل دستوري يفتح مدد الرئاسة، بالتزامن مع حملات "تنظيف" دورية ضد شخصيات قيادية سياسية وعسكرية بتهم الفساد، وفي بعض الأحيان بلا أسباب واضحة، لعل آخرها اقالة وزير الخارجية بعد اختفائه لفترة طويلة، وهو ما يتكرر الآن مع وزير الدفاع.

تبدو مهمة الرئيس شي، في إعادة هيكلة النظام السياسي الصيني ليتناسب مع طموحاته ليست بالمهمة السهلة في ظل وجود قواعد قوية راسخة، وهو ما يشكل خطورة على مفهوم "الجدارة" الصيني في تولي المناصب القيادية وقد يؤدي لتقدم معيار الولاء الشخصي للزعيم على الكفاءة.

أزمات الاقتصاد وشيخوخة السكان

لأول مرة منذ العام 1977، لم ينمو الاقتصاد الصيني بوتيرة أسرع من الاقتصاد العالمي، وعلى الرغم من كل الافتراضات بأن تصبح الصين أكبر اقتصاد في العالم في العقد القادم، قد لا تحتفظ بهذا المكان لفترة طويلة، حيث أن انخفاض عدد السكان وشيخوختهم، يؤثر بشكل أكبر على النمو في المستقبل. وفق هذا المعدل خلال الخمسين عامًا القادمة، ستخسر الصين 225 مليون عامل ومستهلك من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 20 إلى 49 عامًا، وهو رقم ضخم للغاية. كما أشارت تان، في كتابها إلى استخدام المراقبين في الصين مصطلح "تتقدم الدولة، بينما يتراجع القطاع الخاص"، لوصف انزلاق الحكومة المركزية نحو تدخل أكبر للدولة في الاقتصاد.

بحسب تان، تقلص القطاع المملوك للدولة بشكل مطرد في السنوات التي أعقبت انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية "في عام 2001 كان 40 في المئة من جميع الوظائف في الصين في قطاع الدولة وانخفض هذا الرقم إلى 20 في المائة بحلول عام 2008، ولكن هذا الانخفاض توقف في السنوات التي تلت عام 2008، ولم يظهر سوى تغيراً طفيفًا حتى نهاية إدارة هو وين، في عام 2012. بين عامي 2008 و2012، كانت الأصول التي تديرها شركات الدولة قد ارتفعت من أكثر من 12 تريليون يوان إلى أكثر من 25 تريليون يوان. بينما منذ صعود شي جين بينغ، إلى السلطة في عام 2012، أصبح دور الدولة في الاقتصاد أقوى وأكثر وضوحًا".

التحديات الإقليمية

تحيط بالصين عدة أعباء وتحديات كبرى، يمكن أن تشغلها بشكل مستمر وتستنزف قدراتها على لعب دور القطب العالمي القادر على التأثير العالمي.

تتطلع الهند، الواقعة على حدود الصين، للعب دور قوى ما فوق إقليمية، عبر منازعة الصين على دور الزعامة في جنوب آسيا وبلدان "الجنوب العالمي"، وبينما تعاني الصين من تراجع في عدد السكان والشباب، تفوقت الهند عليها لأول مرة في هذا المجال، بجانب صعود اقتصادي غير مسبوق، ودعم غربي ومن محيطها القريب عبر مشاريع اقتصادية وممرات تجارية وتحالفات عسكرية جديدة، وهو ما يشكل ضغطًا لا يستهان به على الصين إلى جانب خصومة تاريخية مع اليابان وكوريا الجنوبية، ونزاع محتمد يمكن أن يشتعل في أي لحظة مع جيرانها في بحر الصين الجنوبي.

حلفاء الصين الإقليميين المفترضين، تدير معهم علاقات صعبة ومعقدة. كوريا الشمالية، ليست بالتابع الذي يسهل التحكم فيه كما يظن البعض في ظل امتلاكها لأسلحة نووية، والعلاقة مع روسيا يسودها الشك والريبة وفقدان للحماس من قبل النخب الروسية التي تخشى من الصين أكثر من الغرب، ومصير العلاقة بين البلدين مرتبط ببقاء الرئيس بوتين في السلطة. يضاف لكل ما سبق، الخشية المستمرة من اهتزاز الأوضاع في آسيا الوسطى وأفغانستان، والضعف الاقتصادي والفوضى السياسية التي تعاني منها باكستان الحليف الأقرب للصين.

الجبهة الداخلية

تظل قضية تايوان، عامل مؤرق للوحدة الداخلية الصينية، في ظل رفض الجزيرة لأي محاولات ضم قسرية وسعيها نحو الاستقلال، بجانب حركات انفصالية في التبت وشينجيانغ، وعلى الرغم من نجاح السلطات الصينية في التعامل مع الرغبات الانفصالية بشكل أمني، لكنها لم تتمكن بعد من التوصل لصيغة تضمن الاستقرار لوحدتها الداخلية، وتلقى قبول من كافة الأطراف، وهو ما يهدد هذه الاستقرار الذي يبدو "هشًا" حال قررت بعض أو كل القوى الغربية تقديم دعم لهذه الحركات.

العالم الروسي

تطمح روسيا بوتين إلى إحياء ما يسمى "روسكي مير" أي "العالم الروسي"، وتستند في هذه النظرية إلى ما تراه "حقًا" لها في الحصول على النفوذ الأكبر بالمناطق الناطقة بالروسية، والتي كانت يومًا ما تحت حكم الإمبراطورية الروسية ثم الاتحاد السوفياتي، وحرب أوكرانيا الحالية جزء من هذا التوجه.

تمثل روسيا تحديًا جيوسياسيًا أكثر منه اقتصاديًا بالنسبة للولايات المتحدة، لكن مستقبلها يكتنفه الكثير من الغموض بعد الرئيس بوتين، فلا وجود لحزب عقائدي حاكم مثل الحزب الشيوعي الصيني، ولا دولة مؤسسات فاعلة على غرار النظم الغربية، وكل سياساتها وواقعها ومستقبلها مرتبط بمن يحكم في الكرملين.

تعاني روسيا من أكبر أزمة ديمغرافية على الإطلاق في ظل مساحتها الشاسعة، حيث يتوقع بهذا المعدل أن ينكمش عدد سكانها البالغ 134 مليون إلى 23% خلال العقود الخمسة التالية، وحال ظل الوضع السكاني الحالي على ما هو عليه، سيصل عدد سكان البلاد عام 2100، إلى 67,4 مليون نسمة فقط في مساحة تبلغ 17,098,242 كيلو متر مربع، يذكر أن روسيا تراجع عدد سكانها عام 2021، لأول مرة في التاريخ 1.04 مليون نسمة.

لا يوجد تقريبًا حلفاء لروسيا في كل محيطها سوى بيلاروسيا، التي يناور رئيسها لوكاشينكو، للحفاظ على سلطته والحصول على أفضل الامتيازات من روسيا، وسط تورطها في نزاع يبدو أنه سيطول مع أوكرانيا، وفوضى في جنوب القوقاز جراء الصراع الأرميني-الأذربيجاني، وتحالفات جديدة تعقدها بلدان آسيا الوسطى.

رغم كل الحديث الروسي عن "الاكتفاء الذاتي" فقد صرح نائب رئيس الأكاديمية الروسية للعلوم أنه "خلال السنوات الخمس الماضية فقط، فقدت روسيا 50 ألف عالم ومتخصص تقني، وهو أكبر عدد تفقده دولة في العالم من التقنيين". ثم أكمل "لا مجال للحديث عن السيادة التكنولوجية بعدما فقدنا أولئك الذين يمكنهم فعل ذلك حيث ستحتاج روسيا 30 عام لتعويضهم".

في ظل هذا الوضع، تبدو روسيا أضعف بكثير من أن تشكل قطبًا عالميًا أو تصبح قائدة له، وينطبق عليها إلى حد كبير نظرية جورج موديلسكي، في كتابه "الدورات الطويلة في السياسة العالمية"، وفي هذه الحالة تمثل دور "القوى المتحدية" للقوى "المهيمنة" دون امتلاك أدوات كافية لتحقيق مكسب جراء تحديها، وهو ما ينتج عنه مكسب لقوى أخرى "كامنة" قد تكون الصين بشكل مؤقت أو الهند.

الخاتمة

تتميز الولايات المتحدة عن سائر خصومها، بأنها أشبه بجزيرة منعزلة، وحقًا تعيش في عالم جديد، حيث لا وجود لتحديات وأعباء على أمنها القومي، ولديها القدرة على الوصول لخصومها وأعدائها بينما لا يمتلكون نفس هذه الميزة نظرًا لموقعها الجغرافي المميز.

لا تمتلك الصين حتى الآن، أي تصور واضح عن "عالم ما بعد أميركا"، ولا كيفية بناء نموذج مضاد أو سياسات مالية واقتصادية بديلة. بحسب المؤرخ رانا ميتر، في كتابه "حرب الصين الجيدة" ملخص رسالة الصين العالمية أنها "مهتمة إعادة تشكيل المؤسسات الدولية القائمة من الداخل أكثر من اهتمامها بإلغاء هذه المؤسسات تمامًا"، ويعود ذلك لاستفادة الصين من هذا النظام أميركي البنيان.

روسيا، تعاني من مشاكل أكبر بنيوية وجوهرية على كافة المستويات، وتلعب دور القوى "المتحدية" للنظام العالمي دون رغبة في تغييره بل للضغط من أجل الحصول على مكان مناسب لها فيه، وقد وضحت الحرب الأخيرة الإمكانات المتزايدة للأتمتة والتكنولوجيا الحديثة، بحسب مايكل بيكلي "يمكن للولايات المتحدة شراء 6500 طائرة بدون طيار من طراز (XQ-58A) أو 8500 صاروخ كروز. من خلال نشر مثل هذه الأسلحة ستكون الولايات المتحدة قادرة على الاستفادة من عدم التناسق الأساسي في أهداف الحرب، بينما يحتاج خصوم الولايات المتحدة مثل الصين وروسيا إلى الاستيلاء على الأراضي والسيطرة عليها لتحقيق هدفهم بالهيمنة الإقليمية، بينما تحتاج الولايات المتحدة فقط إلى حرمانهم من هذه السيطرة، وهي مهمة تتناسب مع شبكات الطائرات الذكية بدون طيار والصواريخ". وبفضل شيخوخة السكان في الصين وروسيا، والتطور التقني للولايات المتحدة وعدم وجود صراعات تهددها في محيطها الإقليمي، سيتم إعاقة توسع خصومها العسكري.

القوى الصاعدة مثل الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، إما على خصومة مع الصين وروسيا، أو لا يمكنها الاعتماد عليهما لتحقيق النهضة المرجوة، وهو ما سيجعل من هذه القوى بجانب القوى الصناعية الغربية والحليفة وبلدان الخليج العربية أقرب إلى الولايات المتحدة، ولدى كل هذه الأطراف مصالح مشتركة فيما بينها.

الأهم أن عنصر الأمان والموثوقية يظل في صالح الولايات المتحدة، حتى في ظل وجود العديد من الخلافات مع حلفائها وأصدقائها، بينما لا يمتلك كافة منافسيها هذه الميزة، وعليه تظل نظريات "العالم متعدد الأقطاب" غير قابل للتحقق دون امتلاك منافسي أميركا على مركز الزعامة نظام مؤسسي مثلها إن لم يكن أفضل.

أخيراً، تبدو النظرة الأكثر واقعية للنظام العالمي الجديد، والتعددية القطبية الحقيقية، ما عبرت عنه السياسة الإماراتية من خلال تصريحات وزير الاقتصاد الإماراتي الأخيرة "الإمارات تؤمن بالنظام الاقتصادي متعدد الأقطاب والتعاون مع كافة الشركاء حول العالم".