شاعت في الآونة الأخيرة مقاطع فيديو وأخبار عديدة حول ما يتعرض له العرب عامة والسوريون على وجه الخصوص من معاملة أقل ما توصف به بأنها غير إنسانية من بعض الجهات التركية. انقسم الرأي العام العربي حولها، بين من يصفها بـ"العنصرية" المقيتة، ومن يبرر ويختلق الأعذار لهذه التصرفات وصولاً لتحميل العرب والسوريين مسؤولية ما يتعرضوا له، وهو ما لم يجرؤ الأتراك أنفسهم على التصريح به.

رغم ما يبدو من أن هذه الحوادث ذات أبعاد "عنصرية" حسب وصف الكثيرين، ساهمت في شيوعها الحالة الاقتصادية الصعبة التي يعاني من المواطنون الأتراك، والتحالف السياسي بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية المتشدد، إلا أن جذور الأزمة أبعد من ذلك بكثير.

الأساطير التاريخية

الأسطورة الأولى – خيانة العرب للعثمانيين

لعل أكثر الأسئلة التي تم طرحها على وقع الأحداث الأخيرة "لماذا ينظر بعض الأتراك للعرب دون غيرهم بهذه النظرة الاستعلائية؟" يعود ذلك إلى حد كبير لنظرية تم الترويج لها على مدى عدة عقود، مفادها أن "هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى نتيجة لخيانة العرب وطعنها من الخلف"، بناءً على هذه النظرية ترسخ لدى الوعي العام التركي مشاعر استياء وريبة تجاه كل ما هو عربي.

من المفارقات أن أول من طرح هذه النظرية وروج لها لم يكن الأتراك، بل جماعة الإخوان في إطار روايتها البديلة للتاريخ بما يخدم أجندتها السياسية والأيديولوجية. ونتيجة تنامي تأثير الإخوان على الداخل التركي روجوا بشكل نشط لهذه الفكرة.

كان الهدف الأول، من وراء الترويج لنظرية "خيانة" العرب المزعومة، نفي الانتماء العربي، ونقد الدولة القومية الحديثة، واعتبارها كيانات "مصطنعة" نتاج لمؤامرة غربية هدفها ضرب الإسلام من الداخل عبر إسقاط دولة الخلافة. الهدف الثاني، الترويج لدولة الخلافة المزعومة وهو ما أدى إلى جانب عدة عوامل أخرى لإثارة مشاعر السخط لدى بعض الشباب المتحمس وصولاً لالتحاقهم بتنظيم داعش الإرهابي الذي بدا أنه قادر على تحقيق هذا "الحلم". الهدف الثالث، الترويج في الداخل التركي لـ "عظمة" الدولة العثمانية ومداعبة الأحلام الإمبراطورية لدى جموع الأتراك الغير مكترثين في العموم لفكرة الخلافة، واختزال سقوطها في "مؤامرة" الخارج وأعوانه في الداخل لا في أوجه القصور الذاتي الذي بدأت تعاني منه منذ معركة ليبانت 1571.

يشهد الواقع التاريخي أن العرب هم آخر أمة قررت الثورة على الدولة العثمانية، وذلك في العام 1916، بعدما ثارت كافة الأمم والأعراق بلا استثناء، ونال بعضهم استقلاله. كما أن كبار القادة العرب الذين دعوا لإقامة كيانات عربية مستقلة عن الدولة العثمانية كانوا في الأساس أعضاء في جمعيات ومنظمات هدفها خلق اتحاد عربي-تركي كونفدرالي، قائم على المساواة بين الطرفين، ونتيجة لما وجدوه من عدم احترام لهويتهم وثقافتهم، وانتهاج القائمين على أمر الدولة العثمانية لسياسة "التتريك" القسرية، وارتكاب المذابح بحق المثقفين العرب (جمال باشا السفاح نموذجًا) تخلوا عن فكرة الاتحاد. أخيراً، الدولة العثمانية حرمت العرب من قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم، وفشلت في حماية أراضيهم قبل أي ثورة من طرف عربي بعدة عقود، تعرضت الجزائر للاحتلال الفرنسي 1830، وفُرضت الحماية الفرنسية على تونس 1881، واحتلت مصر من الإنجليز 1882، وتعرضت ليبيا للغزو الإيطالي 1911.

الأسطورة الثانية – نظريات المؤامرة اليهودية

لم تعرف الثقافة العربية نظريات العداء لليهود، بل كانت السمة الرئيسية للعلاقة بين الطرفين عبر التاريخ يغلب عليها التعاون والتلاقح الفكري حتى في الأمور العقائدية، راجت نظريات العداء لليهود المستوردة من الثقافة الأوروبية من خلال الإخوان وباقي تيارات الإسلام السياسي للتغطية على ما فعلته "الخلافة" العثمانية من خطايا في حق الأمة التركية، عبر الترويج بأن مصطفى كمال أتاتورك، هو من أسقط "الخلافة"، وتبرير ذلك بأنه من "يهود الدونمة" الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا اليهودية.

وقعت الدولة العثمانية عام 1920، بأمر من السلطان محمد الخامس، معاهدة سيفر التي بموجبها لم تتخلى عن كافة الأراضي التي كانت تحكمها فحسب، بل تم تقسيم أراضي تركيا الحالية إلى عدة دويلات، وهو ما رفضه مصطفى كمال، وخاض مع زملاءه حرب الاستقلال التركية مواجهين بمفردهم خمس جيوش أجنبية مدعومة من "الخليفة" العثماني محمد السادس، الذي أسس جيش تحت مسمى "جيش الخليفة"، وتمكن مصطفى كمال من الانتصار عليهم، ولولا جهوده ومن وقفوا بجانبه من الأتراك لما كانت تركيا الحالية لها وجود على الخريطة، ولهذا السبب بالتحديد لقبه الأتراك بـ أتاتورك أبو الأمة التركية، الذي حافظ على وجودها ووحدتها عندما تخلى عنها "الخليفة" وتحالف مع القوى المحتلة.

رغم ذلك، أبقى أتاتورك منصب الخلافة لما يقارب العامين، وقرار إلغائها كان تحصيل حاصل، نتيجة ثورة كل الأمم الإسلامية عليها، وفقدانها شرعية القدرة على حماية أراضيهم، وصولاً لتحالفها مع القوى الأجنبية وقتالها معهم أتاتورك وغيره من الأتراك الرافضين للاستسلام. لتجنب ذكر كل هذا التاريخ، لجأ الإخوان لنظرية "المؤامرة اليهودية" التي تم استخدامها فيما بعد ضد العرب، وإلصاق هذه التهمة بهم بينما لم يجد اليهود تاريخيا مكانا أمنوا فيه وازدهروا في كافة المجالات سوى وسط العرب والمسلمين.

أتاتورك وأزمة الهوية والجغرافيا

تاريخيًا لم يكن للترك وجود في هذه المنطقة، بل يعود موطنهم الأصلي لبلدان آسيا الوسطى التركية الأربعة (كازاخستان، وأوزباكستان، وقرغيزستان، وتركمانستان)، وشينغيانغ شمال غرب الصين الحالية. بدأ وجود الترك في الأناضول عام 1071، بعد انتصار السلاجقة على الدولة البيزنطية في معركة ملاذكرد، وتوسع مع الوقت وصولاً للذروة بعد وفاة سليمان القانوني، الذي بلغت الدولة العثمانية أقصى اتساع لها في عهده لما يقارب الـ 15 مليون كيلو متر مربع. لم يكن للترك دولة بالمفهوم القومي الحديث عبر التاريخ في هذه الأراضي التي كانت متعددة القوميات والأديان.

فجأة سقطت الدولة العثمانية، ووجد الترك أنفسهم في دولة تبلغ مساحتها 783,562 كم⊃2;، الجزء الأكبر منها في آسيا والباقي في أوروبا. بدأت منذ هذه اللحظة أزمة الهوية، البلد الإمبراطوري الضخم تحول لدولة متوسطة الحجم سكانها متعددي والقوميات والأعراق مع غلبة للعنصر التركي وتسميتهم بالأتراك، وهو ما فرض ضرورة خلق هوية قومية مُتَخَيَّلة للأمة التركية الحديثة، لتجنب تفكك الدولة حديثة النشأة بحدودها الجديدة، لصنع رابط مشترك يجمع مواطنيها على اختلافهم. وهو ما يفسر الإجراءات التي بدت قسرية في فرض التغيير على حياة المواطنين الأتراك وعاداتهم وتقاليدهم.

جزء كبير من أسباب فرض هذه الاجراءات القسرية أزمة الهوية والجغرافيا، لا يمكن لتركيا الحديثة تبني هوية دينية في ظل عالم جديد لم يعد فيه للإمبراطوريات القائمة على أساس ديني من وجود. التوجه القومي نحو الأمة التركية الكبرى لم يكن ممكنًا أيضا في ظل وقوع أذربيجان وبلدان آسيا الوسطى التركية تحت السلطة السوفيتية والصينية. التوجه نحو الشرق العربي في ظل اللغة والثقافة المختلفة يعني أن يتحول الأتراك للحديث بالعربية لا العكس. هنا رأى أتاتورك ومن جاءوا من بعده، أن أزمة الهوية يمكن حلها عبر سياسة قومية في الداخل وانفتاح على الثقافة والعادات والتقاليد الأوروبية في الخارج، لتصبح تركيا جزء من أوروبا والغرب الذي رحب بتركيا في ذلك الوقت، وتحديدًا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وبدء الصراع مع الاتحاد السوفيتي، نظرًا لموقعها الجغرافي الهام في هذه المواجهة.

أردوغان وأتاتورك هل من خلاف بينهما

يعتقد البعض أن أردوغان يمثل النقيض من أتاتورك، ساهم في شيوع هذا التصور ما تبناه من خطاب "إسلامي". لكن عند النظر بعمق لكل هذه المعضلات التي عانت منها الدولة التركية منذ تأسيسها، قد تبدو الصورة مختلفة تمامًا. ما يبدو أكثر واقعية أن أردوغان حاول علاج نفس الأزمة التي عانى منها أتاتورك (معضلة الجغرافية وأزمة الهوية)، لكن كلاً منهما عمل وفق مقتضيات وظروف المرحلة التي وجد نفسه فيها.

يُروى أن نابليون بونابرت، قال في إحدى الأيام: "لو كانت الأرض دولة واحدة، لكانت القسطنطينية (إسطنبول) عاصمتها". التقط أحمد داود أوغلو، المنظر الفكري لحزب العدالة والتنمية، هذه المقولة لتحويل أزمة الجغرافيا لمكسب وقيمة مضافة لتركيا عبر تطوير سياسة "صفر مشاكل"، والانفتاح على العالم العربي، وهو مسار قد بدأ منذ الرئيس الأسبق توركوت أوزال.

عند النظر إلى الخريطة، يتضح لنا أن كل جيران تركيا مختلفين عنها في اللغة والثقافة و/أو الدين والمذهب. لا يوجد لديها أي قدرة على صناعة عمق يمكنها من تسويق منتجاتها، وخلق نفوذ يخدم سياساتها الاقتصادية. ولعل أفضل من عبر عن هذه الأزمة بوضوح د. مصطفى اللباد رحمه الله، عندما قال: "المنتج التركي أقل جودة من الغربي وأغلى ثمنًا من الصيني، ولا يمكن تسويقه بشكل كبير سوى عبر العاطفة". تم توجيه العاطفة نحو الشرق العربي باسم "الإخوة" الإسلامية، وإعادة كتابة التاريخ العثماني، وصفر مشاكل مع بقية الجيران، لتستغل تركيا موقعها الجغرافي كمعبر وهمزة وصل بين الشرق والغرب.

أدى الفراغ الذي نشأ بعد ما يسمى "الربيع العربي"، إلى دفع السياسة التركية نحو "الغواية"، ونشوء سياسة التخادم السياسي مع الإخوان. من ناحية تستفيد تركيا عبر الإخوان من تعزيز هذه العاطفة، وهو ما يمنحها المزيد من الفرص لتسويق منتجاتها، وازدهار قطاعاتها السياحية والعقارية والاستثمارية الأخرى، وربما منحها نفوذ جيوسياسي، ومن ناحية يروج الإخوان للنجاح الاقتصادي الذي حققه حزب العدالة والتنمية في المرحلة الأولى (2002-2010) على أنه منسوب لفكر الجماعة، والتبشير بأن البلدان العربية ستصبح صورة من تجربة النجاح التركية لو تولوا السلطة، متجاهلين أن هذا النجاح نتاج لدولة علمانية، وسياسات اقتصادية وسياسية واجتماعية غربية.

تم التصدي عربيًا لمحاولات تركيا حل أزمتها الجغرافيا على حساب العرب، وتحويل المنطقة لمجال نفوذ لها، وهو ما أدى لخسارة اقتصادية تعاني منها حتى الآن، وهو ما خلق إدراك لضرورة العودة لسياستها الأولى "صفر مشاكل"، وبعدما بدا من جدية تركية نحو علاقات صداقة وتبادل مصلحة قائمة على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، مدت من جديد الإمارات والسعودية، يد الصداقة لتركيا.

أردوغان، رجل قومي تركي، يتسم بسياسة براغماتية، كل شيء يمكن أن يخدم الهدف القومي المتمثل في قوة وازدهار تركيا مستعدًا لفعله، لو كان الخطاب "الإسلامي" في لحظة ما سيحقق له هذا الهدف، فلا مانع لديه من استخدامه والتراجع أيضا عنه لو تحول من مكسب إلى عبء، وهو ما حدث بالفعل. لكن تظل الضمانة الأكبر لعدم سقوط السياسة التركية مرة أخرى في فخ "الغواية"، قوة العالم العربي واستقراره لأن الضعف و/أو الفراغ الناتج عن الفوضى قادر على اغواء الصديق قبل المنافس والعدو.

الخاتمة

تركيا بلد مهم للعالم العربي، وبعد تبخر آمال الانضمام للاتحاد الأوروبي، لا يمكن لتركيا أن تستغني عن العالم العربي، والعلاقة الجيدة مفيدة لكلا الطرفين. مشاعر الاستياء التي قد تصل حد العنصرية لدى بعض الأتراك تجاه العرب، تم لمجمها في السنوات الماضية في ظل تبني تركيا لخطاب سياسي عاطفي غرضه اجتذاب الشعوب وإثارة سخطها. الآن لم يعد لهذه السياسة العاطفية من مكان، وهو ما فتح المجال لخروج هذه المشاعر إلى السطح، وعلاجها بحاجة أولاً للتخلص من الخرافات التاريخية التي تم الترويج لها تجاه العرب ومؤسس الدولة التركية، عبر عمل مشترك بين كلا الطرفين من خلال الأكاديميين والمتخصصين في التاريخ، وعلى المستوى العربي نزع السيادة الثقافية من التيارات الإسلاموية، التي صنعت رواية تاريخية موازية غلبت على باقي الروايات الأخرى، واحتكرت عبرها ما تدعي انه "الحقيقة".