ليستِ العولمةُ نهايةً لحقبة القوميّات والكيانات القوميّة الكبرى، بمقدار ما هي محطّة جديدة في مسار تطوّرها التّاريخيّ.

إذا كان من سمةٍ تنماز بها هذه المحطّة الجديدة، فهي الانعطاف بالقوميّات الكبرى ودُولها العظمى إلى عتبة متقدّمة من القوّة والنّفوذ والسّيادة، من طريق توسعة مساحات أثرها في المجال الدّوليّ ورفْع الكثير من القيود التّقليديّة الكابحة (= النّظم التّجاريّة والجمركيّة الحمائيّة وسيادات الدّول الوطنيّة) من أمام حركتها الزّاحفة نحو السّيطرة الكاملة. هنا مَكْمَنُ ضَعْفِ فكرةِ المماهاة بين العولمة وما بعد القوميّة وموطنُ ذهولها عن حقيقة ذلك التّلازُم - وإنْ هو بَدَا خفيّاً - بين العولمة والقوميّات الكبرى في العالم المعاصر.

يسعنا - بوضعنا مسألة العلاقة بين الظّاهرتين على هذا النّحو - أن ننظر في العلاقة من زاوية الأثر المتبادل بين طرفيْها؛ ففي هذا النّحو من النّظر إلى المسألة نتبيّن ما بين الظّاهرتين من صلات تَجاوُرٍ وتبادُلٍ وندحض، في الوقتِ عينِه، فرضيّة التّجافي والقطيعة بينهما؛ الفرضيّة التي تفضي إليها الرّوايةُ التي تبغي كَوْنَنَة العولمة... وتشييعَ الزّمن القوميّ! على أنّ تشخيص ذلك الأثر المتبادل بين العولمة وأطرها القوميّة (الكبرى) ينبغي ألا يصدر عن افتراضٍ مفادُه أنّ مبْنى العلاقة تلك على صلةِ معلولٍ بعلّة أو نتيجةٍ بسبب؛ إذْ هي ليست علاقة أسبقيّةٍ أنطولوجيّة تكون فيها ظاهرةٌ علَّةً لأخرى. وعليه، لا نُدْحة عن النّظر إليها بما هي علاقة اعتمادٍ متبادَل يُتَبَادَل فيها الوجودُ والأثرُ في آن.

حين نقول إنّ الدّول القوميّة الكبرى هي الإطار المرجعيّ للعولمة، نسجّل حقيقةً موضوعيّةً أكثر ممّا نبدي رأياً. بيان ذلك أنّ هذه القوى الكبرى، التي كانت حاضنةً لبدايات نشأة العولمة قبل ثلث قرن (الولايات المتّحدة الأميركيّة، اليابان و - إلى حدٍّ مّا - أوروبا)، شهدت على انعطافات هائلة في مسارها الاقتصاديّ والعلميّ والثّقافيّ وفّرت لها الشّروط الملائمة لإطلاق هذه العمليّة الواسعة من اختراق الحدود ومن إخضاع العالم إليها وللمركز الأكبر فيها: الولايات المتّحدة. إنّ تلك الاندفاعة القوميّة الكبرى، التي جرت على مدى عقود منذ انتهاء الحرب العالميّة الثّانيّة، والمكتسبات التّنمويّة والتّكنولوجيّة التي تحصّلتْ منها، هي ما فتح الباب أمام ميلاد حقبة العولمة؛ أي هي ما سمح بأن يتخطّى نفوذ هذه المراكز القوميّة الكبرى حدودَها، بل وحتّى مناطق نفوذها التّقليديّة، ليشمل العالم كلَّه، وبكلفة زهيدة قياساً بما دُفِع سابقاً لقاء بناء ذلك النّفوذ (من أكلافٍ عسكريّة باهظة الأثمان على المتغلّب والمغلوب معاً). هكذا وُلِدتِ العولمةُ من رحم القوميّات في اللّحظة التي بلغت فيها هذه درجاتٍ عليا من فيض قواها ومكتسباتها عن حدودها الكيانيّة، لتبْدُوَ وكأنّها جاوزتْ أطُرَها التي تكوّنت فيه بذور النّشأة.

ها هنا يتبدّى، إذن، إلى أيّ حدٍّ كان ميلاد العولمة رهناً بميلاد شرطها التّاريخيّ الموضوعيّ: بلوغ التّراكُم القومي لحظةَ الفيض عن حدوده؛ أي إلى أيّ حدٍّ كان للقوميِّ الأثرُ الحاسم في توليد العولمة. غير أنّ ذلك الميلاد لا يعني، بحالٍ، أنّ العولمة انفصلت عن حاضناتها القوميّة وباتت عصيّةً على أيّ استيعابٍ قوميّ متجدّد؛ إذ تَبيّن - بالتّجربة - أنّ ما حصدتْه العولمة من مكاسب لم يكن شيئاً آخر غير ذلك الذي ضَخّتْهُ في رصيد من أطلقُوها. وهكذا كانت العولمة تُبادِل حاضناتها القوميّة الأثرَ الدّافعَ عينَه، فتوفّر لتلك الحاضنات مواردَ قوّةٍ جديدة تعيد بها إنتاج نفسها وتعظيمَ قواها وتوسعةَ نفوذها، كلّما أحرزت نجاحاً في تسخير تلك العولمة لصالحها.

من المشروع، في هذه الحال، أن يُرى إلى العولمة بوصفها نُهْزَةً برسْم الاغتنام. إنّها استثمارٌ للقوّة جزيلُ العوائد في مضمار تعظيمِ قوّةِ مَن يستثمر. لذلك ما تخوَّفَتِ الدّولُ الكبرى من أن تتجاوزها العولمة وتُطوِّح بها وبقواها (على الأقلّ في المراحل الأولى من العولمة)، ليقينِها بأنّ كلَّ كسْبٍ تدرُّهُ العولمة إنّما هو في رصيد قوّةِ تلك الدّول مصبوب. لكأنّما العولمة، بهذا المعنى، ساحةٌ خارجيّة لِلَعِب الدّولة القوميّة، وأداةٌ تُتَوَسَّل لتحقيق ما لم يَعُد يتيحُه داخلُ الدّولة القوميّة من ممكنات جديدة. ما حدث التّضارُب، فَتْرتئذٍ، بين القوميِّ والمافوق قوميِّ (العولميّ) لأنّ من شأن المصالح القوميّة لكلّ دولةٍ كبرى دَوْزَنَة أوتارِ آلةِ عَزْفِ جُمَل التّناغُم (= الهارمونيّ) بينهما، ورأْب ما قد يتخلّل جدار العلاقة من صدوعٍ أو شقوق.

على أنّه بمقدار ما تعثر الدّولة القوميّة الكبرى المشاركة في صُنع معطيات العولمة (أميركا، الصّين، اليابان، الهند، بريطانيا، ألمانيا...) في هذه العولمة ما يعزّز مركزها القوميّ من موارد القوّة، فتزيد إقبالاً على عولمةٍ لا غُنْيَةَ لها عنها، قد تجد فيها ما يرتدّ على مصالحها القوميّة وعلى مركزها في العالم بأوخم العقابيل، فلا يكون أمامها - حينها - بدٌّ من الانكفاء عن العولمة والانسحاب من مؤسّساتها، والتّشرنُق على الذّات لواذاً بها منها. ذلك، مثلاً، ما حصل في الولايات المتّحدة الأميركيّة قبل بضعة أعوام (خلال عهد دونالد ترامب)؛ إذ بعد ربع قرن من الاحتكار الأميركيّ لإدارة نظام العولمة والتّمتّع بثمراته، بدأت واشنطن تستشعر مخاطر المزاحمة الصّينيّة على تلك الإدارة، والفقدان التّدريجيّ للمبادرة، الأمر الذي دفع قيادتها إلى الانكفاء دفاعاً عن داخلٍ قوميّ تتهدّدُه العولمة.

مَن قال، إذن، إنّ القوميَّ إلى زوال في عهد العولمة؟