من الأخطاء الشّائعة في التّداوُل الاصطلاحيّ المُرادَفَةُ، في المعنى والدّلالة، بين الاستقرار وتثبيتِ الأمر الواقع، والمرادَفَةُ بين الفوضى والتّغيير، بحيث يفيد الواحدُ منهما معنى الثّاني ويُطابِقه! وهذه من المرادَفات الباطلة التي يقود إليها الافتقارُ إلى الحدّ الأدنى من الدّقّـة في تبيُّـن المساحات الدّلاليّة للمفاهيم المتشابهة، وتبيُّن الفروق بينها وتخوم معاني كـلٍّ منها.

وليس يَخْفى أنّه مع كلّ تضاؤُلٍ في القدرة على إتيانِ مثل ذلك التّمييز، بالدّقّة المطلوبة، ينتعش الميْل إلى استسهال الحديثِ المرسَل غير المقـيَّد بأيّ ضابط، الأمر الذي ينتهي بالمستَسْهِـل إلى إلقاء الكلام على العواهن؛ وتلك، على الحقيقة، حالُ أكثر ما يُكتَب اليوم ويُقالُ ويُنْشَـر...في البلاد العربيّة على الأقـلّ!

ليس بين الاستقرار وتكريس الأمر الواقع من وجْهِ تماثُـلٍ أو شَبَه. تشير عبارة الاستقرار إلى حالةٍ إذا لم تكن إيجابيّة دائماً فهي، على الأقـلّ، غير سيّئة. هكذا نَصِفُ أحوالاً إيجابيّةً بالاستقرار من قبيل حالة الاستقرار السّياسيّ، وحالة الاستقرار الاجتماعيّ، أو الاقتصاديّ أو الماليّ، وحالة الاستقرار النّفسيّ...إلخ، أي جملة الأحوال التي يسعى الأفراد وتسعى المجتمعات والدّول إلى بلوغها. وهكذا، أيضاً، نَصِف أحوالاً أخرى بالاستقرار فنقصد بالصّفة أنّ الجهة الموصوفةَ بها لم تشهد على حالٍ من التّدهوُر أو الانتكاس أو التّراجع في أوضاعها، على مثال وصفنا حالةً صحيّة لمريضٍ بأنّها مستقرّة، أي أنّها - إجمالاً - حالاً ليست سيّئة. وما هذا هو المعنى الذي تـفيدُه عبارةُ تكريسِ الأمر الواقع أو تثبيتِه؛ إذِ الأمـرُ الواقع ليس إيجابيّاً بالضّرورة، بل قد يكون سلبيّاً وسيّئاً بالمعنى الذي يتعارض ومفهوم الاستقرار ويناقِـضه كليّةً.

وقطعاً ليس بين الفوضى والتّغيير من شُبهةِ علاقةِ اتّصالٍ أو قرابة؛ إذِ التّغييرُ لا يقال عمّا يتحرّك نحو الأسوأ، فيما هذا هو، بالذّات، معنى الفوضى. قد يكون المشتَرَكُ الشّكليُّ بينهما في أنّهما معاً يَمْحُوان وضعاً قائماً أو يهْـدمان واقعاً أو يُزيلان حالاً، غير أنّهما في ما عدا هذه الجزئيّة يختلفان؛ إذ ليس بعد الفوضى إلاّ الفوضى أو ما قد يتناسل منها من الأسوأ: التّـقهقُـر إلى حالةِ ما قبل الفوضى تقهـقُراً مأساويّاً، أو التّـفكُّـك أو الحروب الأهليّة...إلخ. وفي هذا يختلف التّغيير؛ إذْ هو مَـحْوٌ لقائمٍ يَعْـقُـبُه إقامةُ ما هو أفضل منه. ليس من تغييرٍ لا يُـنْتِج بديلاً أو يُنجب جديداً. إنّ ما يكْنسه من وقائع ليس إلاّ لحظتَـهُ الأولى الضّروريّة لتمهيدِ إنشاءٍ جديد، ولو كان محضَ كَـنْسٍ وشطبٍ فحسب، لكان بالفوضى أشبه وبَطَـل أن يكون تغييراً يَعِدُ بشيءٍ جديدٍ نوعيّ تَتَبرَّرُ به إزالةُ القديم.

والحقُّ أنّ الكثير ممّا يحسبه النّاس تغييراً أو وضعاً ناتجاً عن فعل التّغيير ليس أكثر من فوضًى لم تجد لمخاضها مستَـقَـرّاً بعد. والأزْمات التي قد تستبدّ باجتماعٍ مّا، أو اقتصادٍ، أو نظامٍ سياسيّ، أو حياةٍ ثـقافيّةٍ، أو أسواقٍ ماليّة، أو منظومةِ قيم، أو جسمٍ...، هي من نوع الظّواهر الفوضويّة أو، قُـلْ للدّقّـة، من الظّواهر التي يعبّر وجودُها عن حالٍ من الفوضى، أي من اللاّنظام الذي يَحُول دون أن تستقرّ على هيئةٍ تكتسب بها تَعْييناً غير كونها أزمةً أو حالةً فوضويّة أو ما شاكل هذه من تسميات «انتقاليّة» تساقُ، في العادة، لسدِّ فراغ التّعريف. أمّا معنى أن تستقرّ، هنا؛ أي معنى أن يستقرّ ما كان في حكم الفوضى، فهو أن يَرْسُـوَ على نظامٍ مّا: إمّا أن يعود إلى ما كانَـهُ قبل أن تدبّ إليه الفوضى فيكون جزءاً من النّظام القديم، أو أن ينتهيَ إلى تكوين نظامٍ جديدٍ بديل، و - في هذه الحال- يكون تغييراً لا فوضًى. ولعلّ في التّسمية الشّائعة لتلك الحالات من الفوضى بـ «متغيّرات» التّعبير الدّقيق عن العجز عن اشتقاق تعريفات - أو تسميات مطابِقة - لها لاستحالة تسمية ما لم تتبيّن سماتُه بعد، أي ما لم يستقـرّ على نظامٍ بعينه يُخرِجه من منطقة الإبهام الرّماديّة تلك.

ليستِ الفوضى تغييراً، إذن، وإنْ هي أوْحت للوعي الخارجيّ بها بذلك. ولأنّها مَحْـوٌ وتدميرٌ لما هو قائم، فلربّـما كان من ذلك أنّها قد تصبح كابحاً فعليّاً أمام أيّ تغيير؛ لِـمَا تَضعه في طريقه من عوائقَ شتّى ليس أقلّها تلك المشكلات المزمِنة التي تولِّدها الفوضى. وهي عوائق قد ترفع التّغيير من عتبة الإمكان إلى عتبة الامتناع - حتّى لا نقول الاستحالة - فلا تسمح، في أفضل أحوال الرّدّ عليها، بأكثر من إصلاح يَسُدّ الشّقوق ويرتُق الفتوق. من يشكّ في هذا، ما عليه سوى أن يتّعـظ بدروس فوضى «الرّبيع العربيّ»، وكيف بات معها التّفكيرُ في التّغيير فعلاً يائساً يقارب في الاستحالة فِعْل تربيع الدّوائر!