مع بداية الألفية الثالثة اتخذت القرصنة منحنى آخر، فقد أصبحت أفريقيا القارة الأفقر في العالم بؤرة رئيسية لهذا النشاط الإجرامي، تسلل منها فقراء من شرق وغرب القارة إلى البحار المحيطة للسلب أو المطالبة بفدية.. في شرق أفريقيا صال وجال القراصنة الصوماليون في منطقة بحر العرب وغرب المحيط الهندي.
منذ ظهور هؤلاء القراصنة بدرجة مؤثرة سنة 2005 قدرت السفن المختطفة بعدد 149 سفينة، وتم احتجاز 3741 شخصا من طواقمها يتبعون 125 بلدا، أمضى بعضهم فترة احتجاز استمرت ثلاث سنوات، ما ساعد على استشراء هذه القرصنة غياب سلطة الدولة المركزية عن مقديشو، واجتذاب القرصنة لمسلحي ميليشيات سابقين، حاربوا لصالح أمراء الحرب إبان الحرب الأهلية التي امتدت طويلا في الصومال، وفي الأساس انتشرت الظاهرة بسبب تفشي الفقر المدقع بين الصوماليين.
عندما استقر عزم الإرادة الدولية على مواجهة ظاهرة القرصنة الصومالية، تم تضيق الخناق على القراصنة نتيجة التدخل السريع للقطع البحرية الدولية، واستعانة السفن التجارية بأنظمة من الحراسة المسلحة المتعاقد عليها.
وقد لعبت دولة الإمارات العربية المتحدة دورا ملموسا في مواجهة هذه الظاهرة، والحد منها على مستويين:
أولهما: التصدي المباشر لأعمال القرصنة، كما في حالة تحرير السفينة "إم في أريله" التي ترفع علم الإمارات من إيدي القراصنة في بحر العرب، وتعزيز مواجهة الظاهرة بعقد المؤتمرات وورش العمل لمكافحة أعمال القرصنة.
ثانيهما: تقديم المنح والمساعدات المبكرة التي تساعد على استقرار الصومال، إضافة إلى تدريب الأطقم البحرية الصومالية على مكافحة الظاهرة أمام سواحلها، وقد أشاد المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى الصومال "مايكل كيتينغ في نوفمبر 2017 بجهود دولة الإمارات العربية المتحدة في دعم الصومال في مختلف المجالات.
قلص من نشاط القراصنة صدور قرار مجلس الأمن رقم قرار رقم 2442، الذي تم التجديد بموجبه للدول والمنظمات الإقليمية المتعاونة مع السلطات الصومالية في مكافحة القرصنة، والسطو المسلح في البحر أمام سواحل الصومال، واعتبارا من 2019 أفل كثيرا نجم قراصنة الصومال وإن كان هذا لا يعني زوال الخطر.
في الناحية الأخرى من إفريقيا وتحديدا خليج غينيا استلم القراصنة الراية، بعد تقلص عمليات القرصنة البحرية في شرق أفريقيا على أيدي الصوماليين، كما في الصومال لعب الفقر الذي ينتشر بين دول هذا الخليج دورا رئيسيا في ظهور عصابات تقوم بالاعتداء على السفن التجارية، مع اختلاف في تكتيك الحصول على مكاسب غير شرعية، إذ تركز العصابات في خليج غينيا إضافة للحصول على الفدية باختطاف السفن والرهائن إلى استهداف النفط أيضا لبيعه في السوق السوداء.
في 31 مايو 2022 أصدر مجلس الأمن الدولي قراره رقم 2634 المعني بالأمن البحري في خليج غينيا لافتا في منطوقه إلى: " إن المياه الواقعة أمام غرب أفريقيا هي الأكثر خطورة في العالم، إذ شكل القراصنة تهديدا لسلامة السفن المبحرة في خليج غينيا".. كان أول قرار أممي يتخذ بشأن التصدي للقرصنة في خليج غينيا منذ عشر سنوات.
بالأخذ في الحسبان مجال تأثر نشاط الملاحة بالقرصنة في المسافة بين السنغال وأنغولا؛ تشغل سواحل المجال الحيوي لخليج غينيا امتداد لمسافة تزيد عن5700 كيلومتر، وأضحى هذا الخليج طوال السنوات الأخيرة الموقع المتجدد الأكثر نشاطا لأعمال القرصنة عالميا، تبحر فيه قرابة 1500 سفينة من السفن متعددة الأنشطة يوميا من صيد الأسماك إلى سفن الحاويات وناقلات النفط، مع الأخذ في الاعتبار أن خليج غينيا يحتل موقعا مهما لنقل البضائع والنفط والمشتقات البترولية والغاز ما بين أوروبا والأميركتين ووسط وجنوب أفريقيا ذهابا وإيابا في الاتجاهين بينهما.
أطلقت نيجيريا الدولة الأكبر من بين الدول المطلة على الخليج مشروع "ديب بلو" في صيف 2021 لمكافحة القرصنة في خليج غينيا، بتكلفة 195 مليون دولار، ودأبت دول الغرب على إقامة مناورات بحرية في المنطقة، كما أرسلت كوبنهاجن إحدى فرقطاتها الرئيسية إلى الخليج، نظرا لأن 50 سفينة دنماركية مملوكة لمجموعة "ميرسك" أكبر شركة شحن بحري في العالم تعبر الخليج يوميا، وبالفعل أجهضت الفرقاطة بعض عمليات القرصنة ضد أسطول الدانمارك التجاري.
تقلصت أخيرا أعداد عمليات القرصنة المباشرة، ما دفع مجموعات القراصنة إلى التعديل من أساليبها في البحر والمناطق الساحلية، وقد حذرت في مايو 2023 من هذا التغير الذي طرأ على أعمال القرصنة "مارثا بوبي" مساعدة الأمين العام لشؤون أفريقيا قائلة: "في هذا الصدد قد يعزى جزئيا الانخفاض الأخير في حالات القرصنة إلى تحول الشبكات الإجرامية إلى أشكال أخرى من الجرائم البحرية والنهرية، مثل التزود بالوقود وسرقته، والتي من المرجح أنها تعتبرها أقل خطورة وأكثر ربحية".
من البقاع التي تصول وتجول فيها القرصنة منطقة جنوب شرق آسيا، وتحديدا مضيق ملقا، الذي يشهد كثافة في عمليات السلب والنهب، وقد اعتادت عصابات اللصوص المسلحين مهاجمة ناقلات النفط الصغيرة في مياه جنوب شرق آسيا، والسطو على حمولتها من الوقود.
نظرا لطبيعة الجغرافيا البحرية لمضيق ملقا صار مطمعا للقراصنة، كونه الرابط الوحيد بين المحيطين الهندي والهادئ، ومن ثم تمر به حركة تجارة جنوب شرق أسيا مع العالم والنسبة الأكبر من ناقلات النفط، لأنه الممر الأساسي لتزويد كلا من الصين واليابان بالنفط.. يقع هذا المضيق بين ماليزيا وإندونيسيا وتلاصقه من الجنوب الشرقي سنغافورة، ويعد من أكثر المضايق مرورا لحركة السفن على مستوى العالم.
تحديات السلامة التي تسببت فيها القرصنة في المضيق أوجبت على ماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة إنشاء تحالف بينهم، يهدف للتصدي لخطر أنشطة القراصنة، الذين قفزت أنشطتهم مع افتتاحية الألفية بدرجة غير مسبوقة حيث وقعت 220 حادثة، وبالفعل استطاعت قطع الأسطول من القوات البحرية المشتركة بالمتابعة الدؤبة تنفيذ خطط حراسة وتفتيش، قلصت الظاهرة بدرجة أدت إلى اختفاء عمليات القرصنة في بعض السنوات المتفرقة من بداية الألفية.
لم تسلم أمريكا الجنوبية من عمليات القرصنة وإن اتخذت طابعا مختلفا، بالسرقة من السفن الراسية، حيث وقعت أغلب الهجمات في المياه الإقليمية، النسبة الأكبر منها كانت سرقات من على متن اليخوت في عدد من الدول والجزر الصغيرة في القارة الهادئة في مجال القرصنة.
سجلت عمليات القرصنة في نهاية عام 2022 أدنى مستوياتها منذ سنوات طويلة، طبقا للتقارير الدولية المختلفة، لكن حوادث القرصنة ما تلبث أن تهدأ وتتضاءل حتى تعاود الظهور، ولو بعد حين، فقد أشار أخيرا المكتب البحري للمحكمة الجنائية الدولية منوها عن قلقه بشأن عودة ظهور الحوادث في مياه خليج غينيا وفي مضيق سنغافورة، في تقريره منتصف عام 2023.
كما هو الحال دائما عند من ينحرفون من أجل السلب والنهب عرفت القرصنة طريقها إلى خطوط الطيران المدني بين الدول، لكن إرادة المجتمع الدولي المجتمع الدولي اتفقت على محاربتها، لاسيما أن أغلب عمليات الخطف كانت تتم لأسباب سياسية، وبالفعل اختفت عمليات اختطاف الطائرات.
آخر أنواع القرصنة تلك التي استجدت على الشبكة العنكبوتية، وهذا النوع اصطلح على تسميته بالقرصنة السيبرانية، حيث يقوم المستخدمون المحترفون باختراق بيانات حساسة لجهات ما، وحسابات أفراد أو شركات أو حكومات، من أجل الحصول على إتاوات حتى لا تفضح الأسرار أو يعطل الحساب بإطلاق الفيروسات عليه، لكن الدول نجحت في اتخاذ إجراءات حمائية قللت بدرجة كبيرة اختراق بيانتها، وبالمثل قامت شركات الحواسب باتخاذ إجراءات فعالة لحماية الأنظمة والشبكات الإلكترونية للأفراد والشركات.