نشأ مفهوم الأمن الوطني في أعقاب مولد الدولة القومية في العصر الحديث، ومع تشكّل ملامح هذه الدولة اعتبارا من نهاية القرن الثامن عشر وطوال القرن التاسع عشر، بدأت بوادر ظهور مفهوم الأمن الوطني، الذي استقر بعد مراحل من التفاعل أوصلته إلى ثبات الخصائص الأساسية التي تعكس ضرورات سلامة الدولة.

بالطبع، في بداية التطبيق كانت فكرة الأمن الوطني غير مكتملة الأركان، وكان التطوّر الذي يحدث اجتماعيا واقتصاديا وعسكريا يولد مستجدات تستوجب التعديل أو الإضافة لجوانبه؛ غير القابلة للثبات مع تغير أوضاع الدول، لكن دون إخلال بالثوابت التي يهدف إليها كل بلد، وعلى سبيل المثال لا الحصر عما يطرأ من أوضاع جديدة، برز أخيرا الأمن السيبراني؛ كعنصر بالغ الأهمية في جوانب التأمين التي تحرص عليها الدول، والشاهد أن مرونة التطبيق عامل حيوي لمتانة الأمن الوطني واستمرار تماسكه.

يشكّل الاستقرار السياسي والاقتصادي البيئة التي تقوي عناصر الأمن الوطني، وتمنحه المنعة، وتعزز قدراته داخليا وخارجيا، وتمثل صلابة القيم الوطنية وحيويتها جوهر بنيته المفاهيمية والإجرائية، حيث تلتزم الدولة بحماية أفرادها ومقدراتها طبقا للمصالح الوطنية العليا، وما تتعرض له من عوامل التهديد على اختلافها.

كثيرا ما يقرن قطاع عريض من الجمهور أمن الوطن بالقوة العسكرية المستمدة من الجيوش أو المؤسسات شبه العسكرية، كالقوات الشرطية أو خفر السواحل.. إلخ، بينما تبنى مقومات الأمن الوطني على أسس لا تقل في أهميتها عن القوة العسكرية، التي تعتبر مكونا رئيسيا من بين مكونات أخرى؛ كالاقتصاد والسياسة والبيئة والتنمية في عمومها بشريا وماديا.. إلخ.

لأن الأمن الوطني متسع الأهداف، لذلك تتعدد نطاقاته في إقليم الدولة وهي:

الأمن الداخلي: الذي ينقسم إلى جزأين، أحدهما يتعلق بأمن المواطنين ويهدف إلى تحقيق الاستقرار والسلامة بتوفير الاحتياجات الأساسية، من التعليم والغذاء والكساء والمسكن والمواصلات والصحة وحماية المواطن من أي تهديدات تخل بالنظام العام أو الأمن الشخصي، على أن يتحقق ذلك على مستوى الأفراد والجماعات والطوائف في كل أقاليم الدولة دون تمييز.

أما الجزء الآخر من الأمن المتعلق بالخارج -ويطلق عليه أحيانا رغم التباس التسمية الأمن القومي- فهو يتأسس على حماية مجال الدولة في البر والبحر والجو من أي تهديدات خارجية، من خلال القوات المسلحة القادرة على رد العدوان، إضافة إلى بعد آخر "محلي" قائم على رعاية الشرعية الدستورية، والحفاظ على مؤسسات الدولة، والتصدي لأي مظاهر للتطرف السياسي والديني أو العناصر الإرهابية التي تلجأ للسلاح قد تساندها وتقويها مصادر خارجية.

أصبح البعد الاقتصادي أحد أهم جوانب الأمن الوطني، نظرا لتأثيره الطاغي على القوة السياسية والعسكرية، ويستمد قوته من موارد الدولة، والأهم كفاءة القائمين عليها، وكنموذج لهذه الكفاءة جدارة دول منها على سبيل المثال لا الحصر اليابان وسنغافورة وكوريا الجنوبية التي تفتقر في مواردها إلى المواد الخام، ومع هذا حققت نهضة صناعية هائلة، وبصفة عامة يتحقق الأمن الوطني اقتصاديا بالقدرة على إقامة الصناعة، وتحقيق الأمن الغذائي؛ الذي لا يمكن تحقيقه كاملا مهما بلغت المساحة المنزرعة داخل الدولة، ومن عناصر القوة الاقتصادية الموارد التعدينية، والإمكانيات التجارية، وقدرة المؤسسات المالية الوطنية على التمويل، وعدم التمادي في القروض الخارجية تحاشيا لخدمة الدين التي تعيق التقدم الاقتصادي.

لا يتحقق البعد السياسي في الأمن الوطني إلا بكفاءة أجهزة مؤسسات الحكم بشأن تنظيم وإدارة قوى الدولة على مستويين:

أولا: المستوى الداخلي

بالعمل على ضبط العلاقة مع جماعات المصالح والقوى السياسية من أحزاب ونقابات ومنظمات ومجتمع مدني، دون إخلال بتطبيق القوانين والدستور، مع تحقيق التوازن بين نفقات التنمية والتسليح، ومقتضيات الأمن الوطني في غير البعد العسكري وشبه العسكري القائمة على كفاءة تنظيم وإدارة قوى الدولة من الموارد الطبيعية، ومصادر الثروة، وكلها تصب في تأمين متطلبات السيادة الوطنية.

ثانيا: المستوى الخارجي

يمثّل هذا المستوى بعدا حيويا في تعزيز مصالح الدولة العليا، من خلال علاقاتها الإقليمية والدولية، وذلك بالقدرة على انتهاج براعة دبلوماسية؛ تستثمر مصادر قوة الدولة في العلاقة مع العالم الخارجي، بتعزيز القوة العسكرية والتنمية الاقتصادية الفاعلة والمستدامة، لدعم قوة التأثير السياسي في التفاعل مع العالم الخارجي، وعقد الاتفاقات والمعاهدات الملائمة، والانضمام للمنظمات الإقليمية والدولية التي تعلي من مكانة الدولة ومصالحها.

\يلعب البعد العسكري دورا مركزيا في مواجهة الأخطار الخارجية، وأهمية هذا البعد تتمثل في ردع الآخرين عن التعرض لمصالح الدولة، ودرء المخاطر العسكرية المتوقعة وغير المتوقعة.. بالطبع ترتبط تغطية الجانب العسكري التي لا يمكن التقاعس عنها ارتباطا وثيقا بباقي جوانب الأمن الوطني على إطلاقها، دون إخلال بأي منها، وإن كانت المقومات الاقتصادية تحتل أهمية في بناء قوة مسلحة فاعلة، من أجل تغطية نفقات استمرار تحديث السلاح، وتوفير حجم القوات المناسب بما يحتاجه من تكاليف.

تظل تنمية مقدرات الدول قاصرة ما لم يلتفت للبعد الاجتماعي، ليس فقط في توفر حياة رغدة؛ لكن بالقدرة على بناء شخصية الفرد، بمقومات صحيحة من تعليم وصحة وثقافة وطنية، وإعداده ليكون متوافقا مع متطلبات العصر من ثورة معرفية وتسارعات تقنية، وفي المنطقة العربية استطاعت دولة الإمارات العربية المتحدة تحقيق طفرة ملموسة في الارتقاء علميا وثقافيا بمواطنيها، فالفرد المعد جيدا هو القوة الفاعلة في دفع قاطرة التقدم، وتماسك نسيج المجتمع وتحقيق أهداف الدولة.

تتعدد جوانب أخرى للأمن الوطني تساعد على تحقيق توازنه وصلابته مثل الأمن البيئي؛ بعد استفحال مشاكل البيئة، التي أثرت على سبيل المثال لا الحصر على تغير معدلات درجات الحرارة، وتآكل شواطئ البحار ودلتا الأنهار المطلة عليها، مما يستتبع إجراءات تعمل على ترميم وصيانة المناطق الساحلية، كما أصبح الأمن السيبراني ضرورة قصوى فرضتها التقنيات الحديثة، والغاية منه حماية الأنظمة والشبكات من الهجمات الرقمية، التي تهدف إلى اختراق البيانات والمعلومات الحساسة للدول والأفراد، والتجسس عليها أو إتلافها واستخدامها في السرقة أو الابتزاز.