لا تُقدِّم الهيمنة في العلاقات الدّوليّة نفسَها بوصفها كذلك؛ أي فعْلَ هيمنةٍ يتوسّل أدواتٍ عدّة لذلك الغرض، وينتقل من مجرّد فعْلٍ سلطويّ أمْريٍّ يُمْلَى لفظاً إلى فعْلٍ ماديّ ينتزع، مِن الذي يقع عليه، الخضوعَ والامتثال بوسائل القوّة الماديّة.

قد تفعل الهيمنةُ ذلك في النّادر من الأحوال، حين تندلع أزمات وتشتدّ إلى حدود تُنذِر بالانفجار، أمّا في العاديِّ من الأحوال فتمتطي إرادةُ الهيمنة صهْوة كلامٍ مُباح يدور على دوائر "التّعاون" أو "الشّراكة" وما في معناهما، محاذِراً التّصريح بِبُغْيته الفعليّة أو بالغاية التي إليها يقصد. يحتاج خطاب الهيمنة إلى هذا الضّرب من الوداعة في مخاطبة العالم؛ لأنّه أَدْعَى إلى تحقيق المراد منه واستدراج المخاطَب إلى الفخّ: فخّ تصديق الخطاب المُحَلَّى بمفردات الطَّمْأنة. وهو، قطعاً، يَجْهد حتّى لا ينزلق إلى استخدام لغة الأمْر لئلاّ يتحسّس منها مستقبلوها من المخاطَبين فَيَحْملون ما وراءها على معناهُ الحقّ الذي يسعى الخطاب، سعياً حثيثاً، في طمسه.

كثيراً ما تَمَسَّحتِ الهيمنةُ بالقانون وتلفّعت به لتبدوَ للآخرين فعلاً من أفعال المشروعيّة. هكذا تجدها تصف نفسَها، مثلاً، بالسّياسة الحريصة على احترام القانون الدّوليّ أو على تطبيقه وإنفاذ أحكامه على مَن ينتهكه في العالم. ومع تسليمنا بأنّها تعثر في ذلك القانون الدّوليّ على الكثير من الأحكام والبنود التي لا تبرِّر لها أن تكون كذلك، أي هيمنة، فحسب، بل وتسوِّغُها أيضاً! (وهو شأن مفهوم بالنّظر إلى أنّ قوى الهيمنة في العالم هي مَن وضع ذلك القانون بعد الحرب العالميّة الثّانية)، إلاّ أنّ الغالب عليها أنّها تتأوّله، باستمرار، على الجهة التي تتبرَّرُ بها هي فتبدو وكأنّها مشروعة وقانونيّة! وقلّما أعْرضتْ إرادةُ الهيمنة عن القانون الدّوليّ لتبييض المُسوَّد من صفحاتها إلاّ متى وجدت في ذلك القانون من الموادّ والأحكام ما يعارضها، أو ما لا يُشبع بُغْيَتها منه. وما أكثر السّوابق التي انتهت فيها إرادة الهيمنة تلك إلى انتهاك القانون الدّوليّ، والضّرب صفحاً عنه، والعمل بمقتضى مصلحتها غير آبهةٍ بأيّ احتجاج دوليّ على الاعتداء على "الشّرعيّة الدّوليّة": على مثال ما حصل في غزو العراق واحتلاله (2003).

اليوم، تُطلّ الهيمنة من جديد تحت عباءة الكونيّة مستغلّةً ذلك الشّغف العالميّ المتزايد - لدى أكثر الشّعوب شعوراً بالتّهميش والعزل - بالفكرة الإنسانيّة الجامعة التي تتساوى فيها الأمم والمجتمعات والدّول وتتلاشى بينها الفروق والتّفاوتات. فلقد توحي الدّعوة إلى الكونيِّ بهذا الأفق الإنسانيِّ أو، أقلاًّ، بتدشين مبتدأ السّير نحوه فيكون مِن أثرِ ذلك أن تلين عريكة المتمسّكين بمبدأ الخصوصيّات، المشدِّدين على وجوب احترامها. ولربّما انطلت حيلةُ الدّعوة على كثيرين أحسنوا الظّنّ بها فمحضوا أصحابها التّأييد؛ وذلك ممّا يقع خاصّةً حينما "يُدْعَون" إلى أن يكونوا "شركاء" في بعض القيم، فينخدعون بسحر تلك "الشّراكة" الاسميّة. هكذا يُسْتَدرَج العالم، شيئاً فشيئاً، نحو شرعنة سياسات الهيمنة المتلفّعة برداء الكونيّة. أمّا حين يدرِك الخديعة، متأخّراً، تُخيِّرهُ قوى الهيمنة بين مسلكيْن مهينيْن: الصّمت وازدراء الأمر الواقع أو تعريض النّفس لمحاسبةٍ لا يعلم من أين تبدأ ولا كيف تنتهي!

أَفْتَكُ أفعال هذه الهيمنة، المتقمّصة دور الكونيّة، هي السّياسات الدّوليّة للقوى الكبرى التي تحتاز السّلطة والنّفوذ في العالم، وتسيطر على أهمّ مؤسّسات الشّأن العامّ الدّوليّ. وعلى جاري عادة تلك القوى الكبرى في استغلال الأمم المتّحدة والقانون الدّوليّ، تمضي في التّقليد عينِه ولكن، هذه المرّة، لا من طريق الزّعم بالحرص على تطبيق مقتضيات القانون الدّوليّ واحترام مبدأ السّيادة الوطنيّة لكلّ دولة، بل من طريق فرض منظومة قوانين جديدة وحمْل العالم على إنفاذها بما هي - في زعمها - أعلى مرتبةً في الشّرعيّة من القوانين الوطنيّة! من ذلك، مثلاً، ما يحصل اليوم من خداع سياسيّ دوليّ للرّأي العامّ في العالم من وراء تسخير قضيّة حقوق الإنسان لأغراض سياسيّة هيمنويّة لا علاقة لها بحقوق الإنسان! ومع كلّ سياسات الدّول الكبرى وانحيازاتها الفاضحة، وازدواجيّة معاييرها، وصمتها عن جماعات ومجتمعات وشعوب تُنْتَهك حقوقُها... تكفي لبيان الجوهر الإيديولوجيّ المزعوم لدعاواها، إلاّ أنّها لم تكفّ، حتّى اليوم، عن الادّعاء بأنّ هذه الحقوق كونيّة عابرة للأوطان، وبأنّ حمايتها لا تكون إلاّ من طريق تشريعات دوليّة مُلْزِمة على دول العالم، "جميعِها" احترام تطبيقها.