أولا: الأبعاد العسكرية

يسود اعتقاد لدى غير المتخصصين أن قوة الجيوش تقاس بمدى ما تمتلكه من عتاد، والقوة العاملة من الأفراد في القوات المسلحة، وهذا التصور غير صحيح؛ إذ تتعدد العوامل التي ترتبط بقوة الجيش بجوانب أخرى بعضها غير عسكري، قد تبدو بعيدة عن طبيعة أدوار القوات المباشرة سواء في الحرب أو السلم.

المعايير التي تدرس بها قوة الجيش ترتبط ارتباطا وثيقا بالجوانب الاقتصادية والديموغرافية واللوجستية للدولة التي ينتمي إليها الجيش، وكلها تتماهى مع المكون العسكري للقوات في أفرعها الرئيسية البرية والبحرية والجوية، التي زاد عليها الدفاع الجوي للتصدي للصواريخ الباليستية والمسيرات والطيران الحربي التقليدي.

ليس من الضروري وجود كل الأفرع الرئيسية في كل الدول، فاختفاء القوات البحرية لدى بعض البلدان لا يعني وجود قصور في جيشها، فالدول الحبيسة جغرافيا، أي لا توجد لديها سواحل على البحار والمحيطات، هي في غير حاجة للقوات البحرية، ولا يؤثر هذا على معايير قوتها، بينما على الدول التي لها سواحل طويلة ممتدة أن تحوز على قوة بحرية تتناسب مع حدودها البحرية، وربما تتجاوز مكونات هذه القوة حدود الدولة ذاتها، فدولة كالولايات المتحدة تمتلك أكبر عدد من حاملات الطائرات التي تجوب بحار ومحيطات العالم.

رغم إن اقتناء الأجيال الأحدث من السلاح والمعدات العسكرية مؤشر جوهري في تقييم قوة الجيش، إلا أن أهمية هذا السلاح وهذه المعدات تبقى مرهونة بالقدرة على امتلاك المعامل وورش الصيانة والإصلاح وربما التطوير، مهما تعقدت المكونات التكنولوجية في هذا السلاح ووجود الكوادر المؤهلة بالقدر الكافي من العلماء والفنيين لأداء هذا الدور.. لقد كانت ليبيا في عهد القذافي تمتلك ترسانة هائلة من الأسلحة لكن الصدأ اعتلاها وتحولت في المخازن إلى كُتل من الحديد الخردة؛ لغياب الكوادر والورش اللازمة للصيانة والإصلاح.

بالطبع الدول التي تصنع كامل سلاحها ومعداتها من الألف إلى الياء سوف تأتي في مقدمة التصنيف في مجال التسليح بين جيوش العالم، وتنفرد كلا من الولايات المتحدة وروسيا الفيدرالية بهذه المكانة، وتأتي في مرتبة تالية كل من الصين وفرنسا تليهما المملكة المتحدة وبعض الدول الأوروبية ثم الهند ثم البرازيل، ومن هنا تظهر أهمية تنويع مصادر السلاح، فالدولة غير المنتجة لكامل سلاحها من الممكن أن تصبح قواتها المسلحة في مهب الريح مع تقلبات السياسة والأوضاع الدولية، وقد تبدى هذا النهج الرشيد في التنويع لدى دولة الإمارات العربية المتحدة التي تبنت التعدد في مصادر التسليح الحديثة ومنظوماتها الدفاعية، دون إغفال تطوير الصناعات العسكرية الوطنية، في إطار جهود القيادة لتعزيز أمن الدولة واستقرارها.

لقد أصبحت أبنية التنظيمات في جيوش العالم قاطبة متاحة، ويكشف تقرير "التوازن العسكري" للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن مستويات التسلح لدول العالم والقوة العاملة تحت السلاح بدرجة دقة عالية للغاية، وبالمثل يظهر تقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام مستويات الإنفاق العسكري العالمي، لكن الأهم هو كفاءة القوات بدءا من المهارات الميدانية الفردية؛ وصولا إلى التأهيل العلمي للقادة وتمكنهم وحيويتهم على ممارسة مهامهم، وجدارة منظومات القيادة والسيطرة، وكلها مقومات لا تتحقق إلا بالتدريب لذلك تعنى أجهزة المخابرات بمحاولة الوقوف على مستويات التدريب التي تتحقق بها كفاءة القوات، وهذا معيار مهم في حسابات قوة الجيوش، لأن الكفاءة هي الأهم فالفرد المؤهل في الجيوش الحديثة أصبح يختلف اختلافاً جذرياً عنه في الماضي، وهنا تظهر أهمية المعاهد العلمية العسكرية المتخصصة.

حسابات القوة عسكريا إذن هي مزيج من جاهزية الفرد والسلاح، فكلما كان السلاح من الأجيال الأحدث والأفراد على مستوى تدريب عال يصنف الجيش في مرتبة متقدمة، وتحتل قمة قائمة الجيوش بالطبع الدول ذات المعادلة تمتزج فيها كميات السلاح الأكثر والأحدث وعدد الأفراد تحت السلاح، ولهذه المعادلة حساباتها الخاصة فدولة مثل الصين لها أكبر عدد من الجنود تحت السلاح بفارق كبير عن كل جيوش العالم، ومع هذا يأتي ترتيبها في المركز الثالث بعد جيشي الولايات المتحدة وروسيا وهذا ما تجمع عليه مراكز الدراسات المعنية بالشأن العسكري، وإذا كانت هذه المؤسسات تقف في تقييمها عند مؤشرات محددة إلا أن هناك جوانب مهمة تحسب على القيادات العليا، مثل أسلوب توزيع القوات في الاتجاهات الاستراتيجية للدولة والمناطق الأكثر تعرضا للتهديدات الخارجية، والتحديد والاختيار السليم لدوائر الأمن القومي.

المعايير التي توضع لقياس قوة الجيوش نسبية، فعلى سبيل المثال تمتلك بعض الجيوش أسلحة قديمة لكنها استطاعت من خلال كوادرها العلمية والفنية رفع كفاءة هذه الأسلحة، ومن ناحية أخرى تقوم الجيوش ذات الخبرات العلمية بتطوير الأسلحة والمعدات المستوردة؛ بما يخدم متطلبات بيئة الاستخدام الجديدة.

ومن المؤشرات النسبية أيضا في معايير قياس قوة الجيوش أعداد الأفراد في الاحتياط، ومدى تناسبها مع احتياجات القوات المسلحة في حالات رفع درجات الاستعداد القصوى أو قيام الحرب، وهذه الأعداد في الغالب سرية، والإعلان رسميا عنها كثيرا ما يحمل خداعا في طياته، كما تزداد الصعوبة في معرفة مدى نفاذ اساليب الاستدعاء، ونسبة استجابة العناصر المستدعاة في الحضور عند الاستدعاء الدوري، ومدى وتنشيط الخبرات العسكرية وتدريب أفراد الاحتياط على ما يستجد من أسلحة.

تلعب المرونة اللوجستية دورا مهما في تقييم الجيوش، نظرا للحاجة الملحة دائما لتعزيز قدرات الانتقال مهما بلغ طول مسافات تحرك القوات، وضرورة تلبية المتطلبات الإدارية، حيث تشكل العناصر الإدارية في تنظيم الجيوش عنصرا حاسما في مؤشرات القوة، ولنابليون مقولة دالة هي "الجيوش تمشي على بطونها"، لأن الاحتياجات الأساسية من وقود وطعام ومياه وعلاج ومهمات خاصة بالأفراد والأسلحة أهمية قصوى في قدرة القوات على إداء واجباتها ميدانيا أثناء الحروب، وفى الثكنات المنتشرة على أرض الدولة في السلم.