ثمّة شاهدٌ حديثٌ على أنّ مفهوم المواطن يتميّز من مفهوم الإنسان، كما كانت حالُه - دائماً - منذ الفلاسفة اليونان.

الشّاهد هذا هو النّظريّة السّياسيّة نفسها؛ إذْ إنّ هذه "النّظريّة - يقول عبد الله العرويّ - [من أرسطو إلى كانط وهيجل مروراً بروسو] لا تهتمّ إلاّ بفردٍ له مؤهّلات محدّدة؛ وهي أن يكون ذكراً لا أنثى، حرّاً لا مملوكاً، عاقلاً لا معتوهاً، راشداً لا قاصراً، فاضلاً لا دنيئاً، تقيّاً لا فاجراً، أميناً لا خائناً. مَن يتحلّى بهذه الصّفات يُنْعَت بالشّيخ أو الأب أو السيّد؛ هو الفرد المؤسِّس، الذي يملك سهماً في الشّراكة التي تُسمَّى الدّولة الوطنيّة. هذا هو المواطن - المساهم. حقوقُه هي الوجه الآخر لمؤهّلاته. متى فُصِلت الحقوق عن المؤهّلات فقدتِ النّظريّة تماسُكها".

واضحة هي، إذن، تلك التّفرقة التي يقيمها الفلاسفة هؤلاء بين المنتسبين إلى الدّولة جميعاً، مع إِفرادهم فئةً بعينها منهم هي التي تصدُق عليها صفةُ المواطنين. لذلك يتناسب، في هذه النّظرة الفلسفيّة القديمة والحديثة، الحقُّ مع الأهليّة التي تُسوِّغه؛ فلا يتمتّع بمنظومة الحقوق المدنيّة والسّياسيّة التي تُقِرّها الدّولة إلاّ أولئك الذين هم من أعضائها المؤسِّسين والمشاركين فيها من دون سواهم. ولم يجانب العروي الصّوابَ حين عَدّ روسو أوضح مثالٍ للفيلسوف المعبِّر عن هذه النّظريّة وعن تماسكها في كتابه العقد الاجتماعيّ؛ "إذْ من فكرة التّجمّع يستخرج روسو مفهوم الجمهوريّة، ومنه الدّيمقراطيّة، ثمّ الأمّة، ثمّ الدّولة، ثمّ الإرادة العامّة، ثمّ إرادة الفرد العاقل، ثمّ المصلحة، ثمّ القانون...إلخ. كلّ مفهوم ينعكس في الذي يليه انعكاساً جامعاً مانعاَ". ويتّصل ذلك كلّه، في النّهاية، بمفهوم "الفرد الحرّ العاقل الفاضل".

ليس من شكّ في أنّ مثل هذا الفرد المثاليّ لا يمكن وجودُه إلاّ من طريق التّربيّة والتّهذيب. لذلك ما كان مستغرَباً أن تتكرّس، في كتب فلاسفة السّياسة منذ أرسطو، مساحاتٍ واسعةً للحديث في التّربيّة بحسبانها من أَوْكَد أدوات البناء السّياسيّ والمواطنيّ. غير أنّ مثل هذا الإنسان النّموذجيّ قد لا يوجد في الواقع. ومع ذلك - وهنا مفارقةُ روسو التي تدُلّ، حسب العرويّ، على عُقم تحليله - فإنّ ما يعطيه روسو للفرد باليمين يأخذه بالشِّمال؛ ذلك أنّه "يبدأ بإسناد كلّ الحقوق لفردٍ مثاليّ لا وجود له في الواقع، ثمّ يجرّده منها كليّاً ويفوِّضُها إلى الأمّة، ثمّ إلى الحكومة، ثمّ إلى جهازٍ تنفيذيّ قد يتجسّد في طاغيةٍ لا يرحم". وهذه عينُها الملاحظةُ النّقديّة التي تَكَرَّر التّعبير عنها، في الفكر السّياسيّ المعاصر، تجاه مفهوم روسو للإرادة العامّة؛ هذا المفهوم الذي بدا لكثيرٍ من الفلاسفة المعاصرين غطاءً لتقييد حريّات الأفراد وحقوقهم باسم الأمّة وإرادتها، وتبريراً إيديولوجيّاً للفكرة الجمهوريّة - التي أرْستْها الثّورة الفرنسيةّ - في مقابل الفكرة الدّيمقراطيّة التي قام عليهما نموذج النّظامين السّياسيّيْن الإنجليزيّ والأميركيّ.

ولقد يبدو أرسطو، في هذا المضمار، أكثر واقعيّةً من جان جاك روسو في تمثُّل نوع المواطن الذي يصلح لِتقلُّد المسؤوليّات. إنّ المرء لَتكفيه العودة إلى الصّفحات التي كرّسها، في سياسيّاته، لتعريف المواطن الفاضل، وتمييزِه من الإنسان الفاضل، ليكتشف أنّ أرسطو لا يشترط أن يتمتّع المواطن الفاضل بأخلاق مثاليّة استثنائيّة، بل يكفيه التّحليّ بأخلاق الأمانة والمسؤوليّة (أي الأخلاق السّياسيّةِ حصْراً) التي تعود منفعتُها على جميع مَن في الدّولة. لذلك تقترن سمات المواطن الفاضل بنوع النّظام الدّستوريّ والسّياسيّ الذي هو فيه، وتختلف أيضاً باختلافه، ومن دون أن تتقرّر بمبدأ الفضيلة في معناهُ الأخلاقيّ المثاليّ، أي الذي به نحدّد مَن يكون الرّجل الفاضل بالمعنى الأخلاقيّ العامّ.

ومع أنّه يصحّ، تماماً، أن يقال إنّ الفكر السّياسيّ الحديث سقط في بعض المماثلة بين البُعديْن اللاّهوتيّ والسّياسيّ، فأضفى على الثّاني بعض سمات الأوّل: من قبيل تصوير هوبس الحاكمَ المطلق وكأنّه يتمتّع بذات السّلطان الإلهيّ الذي لا حدود لسلطته؛ أو من قبيل مماثلة الإرادة العامّة عند روسو بالإرادة الإلهيّة، إلاّ أنّ الذي لا مِرْية فيه أنّ مفكّرين مثل توماس هوبس وجان جاك روسو - والأخير خاصّةً - ما كان يمكن أيّاً منهما أن يتنازل عن مبدأ السّيادة الشّعبيّة أو سيادة الدّولة، الذي صاغ الفرنسيّ جان بودان نظريّتها؛ وما كان لهما من مندوحة عن الدّفاع عن سيادة الدّولة الوطنيّة من أجل صوْن الأمن والسِّلم المدنيّة (هوبس)، أو من أجل صوْن الحريّة والملْكيّة (جون لوك).

إذا كان توماس هوبس قد قَرَن السّيادة بصاحب السّلطة، فَبَدَا لدعاة الحريّات والحقوق الفيلسوف الأكثر تنظيراً للسّلطة المطلقة، فقد قرنها جان جاك روسو بالإرادة العامّة، فَبَدَا لهؤلاء أنفسهم وكأنّه قيَّد حريّات الفرد - التي ظلّ يدافع عنها - بإرادةٍ جمعيّة أعلى منها باسم السّيادة الشّعبيّة. والحقّ أن سلالةً كاملة من المفكّرين لم تذهل، أبداً، عن مركزيّة مبدأ السّيادة في الدّولة الوطنيّة، مثلها في ذلك مثل هوبس وروسو، وفي جملتها مكيافيلّي، وبودان ومونتسكيو، فكان حديثها في المواطن وحقوقه وحريّاته مقترناً، باستمرار، بتشديدها على السّيادة.