مقابل اندفاعةِ تيّارٍ فكريّ حداثويّ إلى المستقبل، هرباً من الماضي وضِيقاً بالحاضر، واعتقاداً بأنّ فيه الملاذَ من أيّ شعورٍ باضطرابٍ في الوعي بالزّمن، انتصب تيّارٌ فكريّ نقيض كان قد بنى لنفسه أسس السّيطرة في ساحة الفكر.

وبالتّالي، انتحل لنفسه معتَـقَداً آخر في نِصاب المستقبل ومكانتِه من أزمنة التّاريخ تُجافي ذاك الذي أَخـذ به مَنِ اعتبروا المستقبل وحده الزّمنَ، على الحقيقة، الذي يجُبّ ما قبلَه ويَنْسَخُه بآخر غيره.

وهكذا في مقابل مقالةٍ مجَّدتِ المستقبل وبشّرت به خلاصاً نهائيّاً من روائح الماضي، انتصبت مقالةٌ أخرى مُنْبرِيَـةً للحطِّ من مَقامِ المستقبل في التّاريخ، وللتّشكيك في أن يكون على مثال ما يبغي النّاسُ أن يكون: أي لحظةً في نظامٍ من الاستمراريّة التّاريخيّة غير القابلة للانقطاع، يستأنف فيها اللاّحقُ ما بدأ فيه السّابق.

نحن، إذن، أمام مقالةٍ انكفائيّة، ارتكاسيّة تعيش على زمنٍ واحدٍ هو، في عُرفها، الزّمنُ المعياريّ الوحيد، الزّمن الأصل (= الماضي) الذي ليس على غيره (= الحاضر، المستقبل) - لكي يكون زمناً - سوى أن يستويَ نسخةً منه.

وبيانُ ذلك، في منطقها، أنّ زمنيّة الحاضر والمستقبل ليست زمنيّة ذاتيّة خاصّة بكلّ واحدٍ منهما، بل هي موضوعيّة، خارجةٌ عنهما حكماً، وتأتيهما من أصلٍ ومنْبَع واحد: الماضي؛ إذ هُما (أي الحاضر والمستقبل) ليسا من الماضي سوى في حكم الامتداد: امتداده فيهما! إنّهما هو وقد امتدَّ إلى خارج لحظته.

ليس من وجودٍ مستقلٍّ - في منطق هذه المقالة - لأيّ زمنٍ آخر عدا الماضي؛ فهو الذي يَفيضُ زمنُه على ما بعدَهُ فيأخذ هذا الذي هو بعدَه شكْـلَ زمنٍ وما هو بزمنٍ على الحقيقة.

على الحاضر والمستقبل، إذن، أن يَتَحَلّيا - بما هما لحظتان متولِّدتان من الماضي - بِسمْت نظام الزّمن الأصل كي يكونا من صلبه وتكون لهما في التّاريخ مكانةٌ اعتباريّة.

وإنْ شئنا الدّقّة، فإنّ منطق المقالة هذه يقول إنّ عليهما أن يكرِّرا الماضي وأن يعيدا إنتاجه كي تَحْظى زمنيّـتُهما بشرعيّة الوجود: الشّرعيّة التي لا تأتيهما إلاّ من ملابَسَةِ الماضي لهما، كامتداديْن له، وخَلْعِ الماهية عليهما بما هُمَا من نسْغه وعلى مثاله.

هكذا تُخْتَـزل أزمنةُ التّاريخ، في هذا الوعي، إلى زمنٍ واحدٍ وحيدٍ يتكرّر عبر وحْداته: الماضي. لذلك على الماضي أن يكون أبديّـاً، متجدّداً في الحاضر والمستقبل وديمومةً لا تتناهى...

مقالةُ هذا التيّار هي السّائدة في الوعي العربيّ اليوم، وهي التي تجد لسيادتها الثّقافيّة مرتكزاتها في الذّهنيّة العامّة، كما في السّياسات العامّة التي ترفع من مقام الموروث والتّقليد، خاصّةً السّياسات الثّقافيّة والتّعليميّة التي تتهيّأ بها أجيالٌ متعاقبة من جمهور هذا التّيار وأقلامه وألسنته.

والملاحظةُ هذه مصروفةٌ للقول إنّ مَـأْتَى سيادتِه من هذه الأسباب والعوامل بالذّات، لا من «تفـوُّقٍ معرفيّ» قد يدّعيه لنفسه أو ينسُبُه أَتباعُه إليه. ولعلّه يكفينا أن نَعْـلَم بأنّ مقالته هذه لا تقترح على الوعي العربيّ إلاّ الذّهاب في طريق الانسداد؛ في اجترارٍ مكرورٍ ودائرٍ في نقطة الصّفر، لندحض أُزعومة ذلك «التّـفوّق» «الثّـقافيّ».

لا غرابة إن أبْدى هذا التّيار خوفَه من المستقبل وتَطـيُّرَه منه، فنحن نعرف، على التّحقيق، أنّه ما توقَّف يوماً - ومنذ مطلع العصر الحديث (أو، للدّقّـة، منذ اصطدام العرب والمسلمين بهذا العصر وحقائقه الجديدة) - عن ذمِّ الحاضر، وإدانة ما فيه من انحرافٍ عن خطّ سيْر التّاريخ (= الماضي عنده)، والتّشنيع عليه وعلى ما فيه من هجانةٍ في الأفكار والقيم.

وفي هذا الموقف الإنكاريّ للحاضر ما يستَدلّ به على موقفه من المستقبل. إذا كان حاضر العرب والمسلمين، في نظره، ليس سليل تاريخهم الخاصّ، بل هو من صنع تاريخ غيرهم، ولذلك فهو يُخْرجُهم من تاريخهم وحضارتهم وثقافتهم لِيُدْخِلهم في أزمنة غيرهم، فكيف سيكون عليه مستقبَلٌ يُولَد من رحم هذا الحاضر الأَشوهِ عندهم؟

هكذا سيصبح مألوفاً، عندهم، اللَّواذ بالماضي والموروث، والاستمساكُ بهما هرباً بالنّفس من حاضرٍ ومن ماضٍ ممجوجَيْن، بل يبعثان على الخوف من ضرب مقوّمات الهويّة الثّقافيّة والدّينيّة في مقْتل.

في الأثناء، سيرتفع - في خطاب هذا التّيار- معدّل التّوجُّس من كلّ مظاهر التّقدّم في ميادين الاجتماع والفكر والثّقافة والقيم، وستُـنْعت بأنّها من الأفعال الغرائزيّة لغربٍ يفتقر إلى أيّ معنًى لافتقاره إلى القيم الرّوحيّة، في الوقتِ عينه الذي ستتوالى فيه عمليّات التّحريض على منظومة التّقدّم، وعلى مَن يأخذ بمبادئها من بني جلدتنا بدعوى أنّه متغرّب، أو يدعو إلى التّحلُّل من جذوره الحضاريّة والثّقافيّة.

لكنّ الذي يَصْدم وعي مَن يطالعون هذا الخطاب أنّ أصحابه الذين يُبْدون كلّ هذا العداء للتّقدُّم وقيمه، ويتطيّرون من مستقبلٍ مبْنيّ على تلك القيم، لا يُبْدون - في الوقتِ عينِه - أيَّ نقدٍ للمظاهر الماديّة والتّقنيّة للتّقدّم، بما في ذلك المستحْدَثَات التّكنولوجيّة التي يتهافتون على استخدامها، كما لو أنّها منتوجات لا مقدّماتٍ ثقافيّة لها، ولا منظومة قيم دافعة تقف وراءها! وفي ذلك الكثيرُ من المفارقة، لئلاّ نقول النّفاق.