ربما يحدث بعض اللبس عند الحديث عن الحرب وعلاقتها بالمسرح لدى طرفي الموضوع، هما العسكريون الذين يحترفون العمل في الجيوش، والمهتمون بالفن المسرحي لبنة الدراما الأولى الذي ينعته النقاد بأبي الفنون، وكلاهما العسكريون والفنانون لهما وشائج قوية بالإغريق، فالاستراتيجية كمصطلح أساسي للعلم العسكري والدراما كجوهر للعرض المسرحي يعودان لليونان القديمة.

مفردة المسرح ذات استخدام مركزي لدى العسكريين لأن ميدان الحرب يطلق عليه مسرح العمليات، وقد تغيرت كثيرا طبيعة العمليات الحربية في مسارح العمليات المعاصرة نتيجة التأثير الطاغي للتكنولوجيا، وما أدت إليه من تغير جذري طرأ على الأسلحة وأدوات الحرب، ويتشابه الأمر كثيرا مع "أبو الفنون" فالعرض المسرحي يعيد تشكيل مفردات الفرجة للمتلقي بصريا بسبب التكنولوجيا أيضا، من خلال الاستخدمات الرقمية للإضاءة والصوت وتنظيم السينوغرافيا تشكيليا وحركيا.

سادت الحرب كظاهرة مشهد الحياة في الواقع الإغريقي، مثلما كان احتفالهم بالأعياد الدينية والدنيوية وممارستهم للفنون والرياضة، وعلى مدار أكثر من ثمانية قرون منذ خرجت اليونان من العصور المظلمة وبداية العصر الكلاسيكي القديم جرت سلاسل من الحروب المتصلة، لم تنقطع إلا فترات قصيرة وليس أدل على ذلك أكثر من قول "هيرودوت" المؤرخ الإغريقي المعروف: "لقد حل ببلاد اليونان من عهد دارا وما تلاه كوارث أكثر مما حل بها خلال الأجيال العشرين التي سبقته، كانت بعض المصائب بسبب الفرس، والبعض الآخر نتيجة الصراع بين قادة اليونان حول السلطة العليا".

دراميا كانت هناك علاقة وثيقة بين بدايات المسرح والحرب، لأن جوهر النص المسرحي قائم على التفاعل مع محيطه السياسي والاجتماعي والديني، وتجلى هذا بوضوح من خلال واقع الإغريق الذي تخللته كثيرا الحروب، مما جعلها تتبدى في الأساطير والملاحم التي تأثر بها النص المسرحي، بما تمثل فيه من قدرة على التفاعل مع هذه الأساطير والملاحم وإعادة إنتاج محتواها، مثلما هو قادر واقعيا على التماهي مع السياق الاجتماعي والتاريخي.

نصوص التراجيديا في الدراما الإغريقية رغم ارتباطها الوثيق بالأسطورة إلا أن الحرب كانت حاضرة في تلافيف النص المسرحي منذ أن أسس أسخيلوس الذى يشار إليه أنه "أبو المسرح" للنص والعرض المسرحي، ويتبدى دور الحرب في مسرحه على سبيل المثال في مسرحيته "الٌفرس" التي تناولت حدثا واقعيا تاريخيا، ومسرحيتيه المؤسستين على الأسطورة "أغامنون" من ثلاثية أوريست و"السبعة ضد طيبة"، وطيبة هنا ليست تلك التي كانت عاصمة في مصر القديمة، حيث تتكشف الحرب دراميا متجسدة بقوة في حبكة النصوص، ومن المعروف أن أسخيلوس نفسه كان محاربا في جيش بلاده.

الطريف في الأمر أن الحرب غشت أيضا الكوميديا الإغريقية على يد رائدها "أريستوفانيس"، يبدو هذا جليا في مسرحية "ليسستراتا"، حينما انتقد أرستوفانيس نظم الحكم البالية في أثينا أثناء الحروب البيلوبونيزية، لذلك تخيل الكاتب الساخر إنقلابا تتزعمه النساء لإيقاف القتال الدائر بين أثينا وإسبرطة، من أجل الحفاظ على الرجال الذين تناقص عددهم بسبب الحرب، ومع وصول رسول من قبل الإسبرطيين يعقد مجلس سلام، فتقوم ليسستراتا أثناءه بتأنيب المتطرفين من الجانبين الأثيني والإسبرطي وتحثهم على التصالح، ومن ثم يتم إبرام السلام.

كان المسرح الإليزابيثي أحد المحطات الوسيطة المهمة في أوروبا نحو استعادة المسرح لألقه القديم، وانعكست هذه الفترة في مسرح شكسبير الذى شرع في شق الطريق لأفق جديد للكتابة المسرحية، ورغم تنوع مسرحيات مابين التراجيديا والكوميديا المغلفة بالرومانسية أحيانا إلا أن الحرب احتلت مكانا مميزا في مسرحه، من خلال ثلاثية هنري السادس ومسرحية ريتشاد الثالث، وفيهم ينغمس تناوله للحرب الأهلية التي صك لها شكسبير مصطلح ساد فيما بعد هو "حرب الوردتين"، حيث كانت الوردة الحمراء شعار أسرة "لانكستر" والوردة البيضاء شعار أسرة "يورك" وقد حفلت هذه المسرحيات بوقائع وتفاصيل دموية.

كانت الولايات المتحدة بعيدة عن ميدان الحرب العالمية الأولى لكن جنودها شاركوا فيها، وللإشارة إنسانيا إلى تداعياتها كتب الأديب الأميركي "بيرسيفالد وايلد" النص المسرحي الشفيف "أمهات الجنود"، الذي يتناول قصة سيدتين ولديهما يشاركان في الحرب ويتشاركان في نفس الاسم، مات أحدهما لتبدأ بين الاثنتين رحلة معاناة بحثا عمن فقدت ابنها.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية كتب "آرثر ميللر" رائعته المسرحية "كلهم أبنائي"، التي بنيت حبكتها على جريمة ارتكبت عندما شحن شريكان أثناء الحرب اسطوانات تالفة لطائرات القتال، مما يتسبب في مقتل 21 طيار، وعندما يتم اكتشاف الأمر يسجن أحد الشريكين ويفلت الآخر من العقاب، ومع تعقد الحبكة يضيق الخناق معنويا على الشريك خارج السجن مما يتسبب في انتحاره، وكأن الحرب التي تنتهي في الجغرافيا تظل باقية لتفضح تضاريس خطاياها في المجتمع.

بتأثيرها.. في أعقاب الحرب العالمية الثانية ظهرت موجة جديدة في المسرح العالمي شكلت قطيعة مع الموروث التاريخي للمسرح، مثلت اتجاها عكس حالة الارتباك والتشوش الناتجين عن جنون الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث بدت النصوص وكأنها بلا خطة، وبلا هدف، واتصفت نهاياتها بأنها غير مرئية المعالم، مما يعطي انطباعا بأن مصير الإنسانية بسبب الحرب والسياسة أضحى غير معروف.. بدأت هذه الموجة بمسرحية صمويل بيكيت في "انتظار جودو" التي أسست لمسرح العبث الذي تواصل مع كتابات "يوجين يونسكو" و"آرثر أداموف" و"جان جينيه" و"هارولد بنتر" وغيرهم.