ثمّة اعتقادٌ شائع لدى كثيرٍ من الدّارسين لتراث الإسلام الفكريّ والثّقافيّ - عرباً ومسلمين وغربيّين - مَفادُهُ بأنّ الميادين الفكريّة التي تناولتِ السّياسة (الإمامة والخلافة والسّلطة والمُلك وما يدور في فلكها) حكمَتْها قواعدُ تنتمي إلى الفكر الدّينيّ.

وأنّها - لذلك السّبب بالذّات - لم تُقدِّم عن السّياسة المعرفةَ المطلوبة، ولا نظرتْ إليها بما هي ديناميّةٌ اجتماعيّة تتحكّم فيها عواملُها الخاصّة التي ليست، دائماً، ذاتَ صلةٍ بالدّين.

هكذا عُدَّتِ المرجعيّةُ الدّينيّةُ للفكر الإسلاميّ، وعُدَّ النّصُّ الدّينيّ بالذّات، عائقاً حائلاً دون نشوء معرفة عن ظاهرات المجتمع من جنس الظّاهرة السّياسيّة، علماً أنّها ربّما كانت من أمّهات ظواهر الاجتماع الإسلاميّ منذ تكوُّنه.

والحقّ أنّنا إنِ استثنينا، نسبيّاً، عِلميْن من العلوم الدّينيّة هما علم الكلام والفقه، اللّذيْن ظلاّ شديديْ الاتّصال بالنّصّ الدّينيّ وأحكامِه، فإنّا نُلْفي أنّ أكثر الفكر الإسلاميّ انصرافاً إلى السّياسة لم يكن مشدوداً إلى ذلك النّصّ الدّينيّ، ولا منضبطاً لليسير من قواعده في السّياسة - أي تلك التي لم يُـعْـتَدَّ بمشهوريّتها لدى المتكلّمين والفقهاء -؛ بل كان أكثرُ انصرافه إلى الواقع التّاريخيّ، وإلى ما يفرضه على النّاس من أحكام، وما يرتِّبه على الجماعة الإسلاميّة من واجب التّدافُع والتّداعي لحماية المصالح وتعظيمِها. هكذا كانتِ السّياسة - في حالات تَجَلّيها وكُمونها معاً - شأناً حاضراً في واقع هذه الجماعة لا في نصوصٍ يَعِـزّ فيها العثورُ عليها إلاّ بِجَهْدٍ غزير، وبكثيرٍ من التّأويل المتعسِّف والإسقاط غيرِ المشروع وغيرِ التّاريخيّ.

لم يكن لعلم الكلام وللفقه أن يذْهلا عن التّاريخ، كليّةً، وهُما يقيمان نظرتهما إلى الإمامة من مادّة الأحكام الشّرعيّة (أو ما اعتقد رجالُهما أنّها، فعلاً، أحكامٌ شرعيّة)؛ ذلك أنّ القسم الأعظمَ من كلام الفقهاء والمتكلِّمةِ على الإمامة، وعلى وجوبها وشروط تقليدها لِمن هو أهـلٌ لِتَقَـلُّدها...، إنّما كان يمتح مادَّتَه، ويبني مصدوقيّـتَه، من التّاريخ لا من النّصّ؛ نعني من تاريخ الصّدر الأوّل وتجربة الخلافة في عهد الرّاشدين. وما من مسألةٍ من مسائل الإمامة (خلافة النُّبوّة في الأمّة، وجوب الإمامة بالعقل أو الشّرع أو بهما معاً، العقد والاختيار والوصيّة، خصال الإمام، جوازُ أو عدمُ جواز العقد لأكثر من إمام في الوقت عينِه...)، إلاّ وكان القولُ الفصلُ فيها للسّابقة التّاريخيّة لا للنّصّ؛ لأنّه لا نصّ  فيها  أصلاً  وإنّما اجتهاداتٌ لكبار الصّحابة اتّخذها المسلمون سنّةٌ لهم  فارتفع مفعولُها في التّشريع إلى مستوى مفعول النّـصّ نفسه.

على أنّ قسماً آخر من كلام المتكلّمة والفقهاء في الإمامة ظلّ ينتهل مادّته من واقع السّلطة القائمة ومن حاجات سياسيّة للجماعة الإسلاميّة، لا من نصوص الدّين.  وهذا ما يفسِّر لِمَ أُجبر متكلّمون وفقهاءٌ كُـثر على الاعتراف بما بعد نظام الخلافة: دولةُ المُلْك، ثمّ بسلْطنات الأمر الواقع بعد وهْن منصب الخلافة وصيرورتِه منصباً شكليّاً؛ ثمّ لِمَ جَوّزوا قيامَ أكثر من إمامٍ بعد انشراخ وحدة الدّولة، وسوى ذلك من تجويزاتٍ قضت بها الأوضاعُ الحادثة وأحكامُها القهريّة. لذلك ما كانت حتّى هذه العلوم الشّرعيّة المُغرِقة في النّصّ بمبْعدةٍ من التّاريخ في تآليف رجالها في شؤون السّياسة والإمامة.

خارج هذين العلميْن الدّينيّين وموضوعاتهما في الإمامة؛ أعني في نطاق أجناسٍ أخرى من الكلام على السّياسة، من قبيل الأدب السّلطانيّ وفلسفة السّياسة وعلم العمران الخلدونيّ، لن يكون للنّصّ الدّينيّ من مرجعيّةٍ أو حضورٍ (ما خلا - على نحوٍ جزئيّ - في النّصوص السّلطانيّة التي دبَّجها الفقهاءُ على شاكلة كُتّاب الدّواوين)، وإنّما كان القولُ فيها على معتَمَدٍ من أحكام التّاريخ وحقائق الواقع السّياسيّ نفسِه و، أحياناً، بتوسُّلِ بعض نصوص الفكر السّياسيّ الفارسيّ واليونانيّ. وكان شأناً مفهوماً، تماماً، أن لا يُلْتَـفَتَ في التّأليف السّياسيّ - إبّانئـذٍ - إلى النّصّ الدّينيّ الإسلاميّ؛ ليس لِنُدْرة ما قد يُسْتَند إليه من آياتٍ قرآنيّة فحسب، بل لأنّ ما كان يُعتقد - في الوعي الجمْعيّ الإسلاميّ - أنّه نظامُ السّياسة والسّلطة الأكثرُ مطابَقةً لِ «أحكام الشّرع» (أعني نظام الخلافة)، قد باعَـدَ العَهْدُ بينه والعهودِ التي كَتَب فيها الكتّابُ والفلاسفة ما كتبوه؛ وهي عهودٌ قامت فيها أنظمةُ حكمٍ مختلفةٌ، تماماً، عن النّظام الذي يُعْتَـقد أنّه الأكثرُ تمثيلاً لمبادئ الإسلام ونُظُمه، أو هي دون نموذجه الذي تَمَثَّله مَن جرّبوا النُّطقَ باسمه.

الأهمّ من هذه الاعتبارات جميعاً أنّ نظامَ الوقت، الذي كتب في نطاقه هؤلاء، هو نسخةٌ محليّةٌ لنموذج سياسيّ قديم عرفَتْهُ كلٌّ من بلاد فارس وبيزنطة، الأمر الذي سوّغ لهؤلاء أن يعودوا إلى ذلك الأدب السّياسيّ القديم، وأن ينهلوا منه ما قد يُسعفهم في تقوية السّلطان القائم؛ ففي هذا الأدب السّياسيّ الفارسيّ (والفلسفة اليونانيّة) ضالّتهم، لا في نصوصٍ دينيّة تكاد أن لا تقول لهم شيئاً في ميدان السّياسة، تماماً مثلما هي ضالّتهم في ما فَرَضه التّاريخ والواقعُ الموضوعيّ من أحكام.