عندما عرفت البشرية الحرب بصيغة نظامية حينما كان يقف جنود قوتين أو بلدين أو حضارتين في مواجهة بعضهما البعض في بدايات نشأة فكرة الجيوش، كانت وقائع المعارك تتم بنزاهة، فالاشتباك بين المتحاربين يتم بشرف وكرامة، لأن السلاح المتمثل في السيف أو البلطة أو الرمح كان لصيقا بالمقاتل خلال مجريات المعارك الافتتاحية لفكرة الحرب، والقاعدة هنا هي كلما كانت تكنولوجيا التسليح أقل تعقيدا كانت وقائع الحرب أكثر شرفا.

أجيال الحروب الحديثة صارت كئيبة وأكثر عنفا وأوسع تدميرا وأسوأ أخلاقا ذات بنية قيم تتدهور بلا توقف، فالتكنولوجيا لم تعد مقتصرة على السلاح، لكنها اتسعت لتشمل أدوات أخرى لبث الرعب والأكاذيب لدى القوات المعادية والسكان، صحيح أن ضغطة زر يمكن أن تؤدي إلى انطلاق صاروخ بالستي يحمل رأسا نوويا يمكنه تدمير مدينة بالكامل، لكن وهذا هو الأخطر في ظل تبادل الردع المخيف للأسلحة النووية القادرة على إفناء الكوكب، وأخذت مجريات الحرب والعنف المسلح مسارات جديدة خلخلت الإطار الاستراتيجي السائد منذ قرون لممارسة فعل الحرب.

تبدى التغير الجوهري لفعل الحرب فيما صار يعرف أخيرا بالجيل الرابع الذي تجاوز ملامح التحول النمطية والجوانب الإجرائية في قواعد ممارسة المعارك، وإذا كانت الدراسات العسكرية تتحدث عن أجيال لاحقة إلا أنها رغم قدرات الرصد والتحليل لم تصل بعد إلى إمكانية تأسيس بنية متماسكة كتلك التي حققها القوام المفاهيمي في بلورة طبيعة ما استحدثته حروب الجيل الرابع من اختلافات نوعية.

يتصف الجيل الرابع للحرب بأنه يتأسس على صراعات أكثر تعقيدا لموروث فكرة الحرب بتبني من يديرونها تكتيكات ذات اختلافات نوعية في مرونتها وأساليبها، حيث تمارسها الجماعات العابرة لمفهوم الدولة القومية ضاربة بمقومات الروح الوطنية عرض الحائط، كما يمكن أن تمارسها أيضا الدول في صراعاتها وتدار حروب الجيل الرابع عملياتيا بأنماط اشتباك ممعنة في اللامركزية والتخلي نسبيا عن التسلسل الهرمي للقيادة التي يمكن أن تقتصر أحيانا على إعطاء توجيهات عامة.

كما تنطلق حروب الجيل الرابع من ذهنية مغايرة تتشكل بنيويا بنسق يربط العلاقات التفاعلية للحرب بهجوم تتجاور فيه مع الأسلحة التقليدية أسلحة معنوية هدامة بالغة الشراسة باستخدام كل أدوات ووسائل الميديا والدعاية الحديثة الأكثر تطورا لشن هجمات كاسحة على ثقافة وأيديولوجية العدو باستغلال الاختلافات العرقية والدينية، بل والمذهبية داخل الدين الواحد لهدم الدولة من الداخل، ومن أساليب هذه الحرب أيضا تواصل الحرب النفسية من خلال تكثيف الشائعات وزرع العملاء وحشد الكتائب الإلكترونية التي تروج الأكاذيب والأخبار الزائفة وتتصيد أوجه القصور التي لا تخلو حكومة منها، وإن بدرجات ومن العناصر الخطرة في الجانب غير العسكري السياسيين العملاء الذين يلجؤون لأساليب التضليل والفتك الذهني.

في حروب الجيل الرابع تقوم التنظيمات الإرهابية المؤدلجة بعمليات ترويع للسكان المدنيين تصل إلى حد الإبادة الجماعية ونشر الخراب في عموم الدولة أو في مناطق جغرافية محددة من خلال خلايا خفية مدربة، ومن أمثلتها تنظيم القاعدة الذي نجحت الجهود الدولية في ضعضعته وبصفة عامة تلجأ التنظيمات الإرهابية في حربها اللامتماثلة Asymmetric Warfare إلى ضرب مصالح الدول الحيوية من مرافق اقتصادية وخطوط مواصلات ومنشآت ذات قيمة رمزية في محاولة لإضعاف هيبة الدول.

حينما تلجأ الدول لاستخدام أدوات الجيل الرابع فإنها تشتبك إما بإدارة الصراع المباشر مع الخصم أو عن طريق طرف ثالث مناوئ، وتعتمد بقوة أيضًا على وسائل الأعلام المختلفة والمعارضة ومنظمات المجتمع المدني وكل سبل النفوذ والعمليات الاستخبارية وتقديم الدعم اللوجيستي، ولا يخلو الأمر من الإمداد بالسلاح والمال.

قبل التطرق إلى الكيفية التي يمكن بها التصدي لحروب الجيل الرابع تجدر الإشارة إلى أن استقرار الدول وصلابة بنيانها الاقتصادي والاجتماعي مقومات تشكل حائط صد قويا يحمي بل يقطع الطريق على مثل هذا النوع من الحروب، ومثال لهذه الدول الولايات المتحدة ودول أوروبا وسنغافورة، والإمارات العربية المتحدة في إقليم الشرق الأوسط.

عملياتيا في إدارة الصراع المباشر مع قوات أو عناصر الجيل الرابع تتم المواجهة عن طريق تفتيت القوة الرئيسية والعمل المستمر على تشتيت العناصر المتمردة وكشف تهافت عقيدتها ومصالحها الخاصة، لكن هذا لا ينفي أهمية أن تعمل الدول التي تتعرض لها النوع من الحروب على تغليب سيادة القانون وشفافية القرارات والممارسات الحكومية في إطار من التشاركية مع المواطنين والاستجابة للمتطلبات الاجتماعية والاحتياجات الأساسية والتعزيز المستمر لوعي الجماهير في ظل كفاءة وفعالية الأداء الحكومي.