الحرب العالمية الأولى هي نهاية المطاف لمفاهيم سادت عبر تاريخ الحروب الطويل الذي عاشته البشرية، حيث لم يسلم مكان على وجه الكرة الأرضية أو شعب أو عِرق مِن ويلات الحرب ووقائعها.

كانت الحرب العالمية الأولى بداية اختفاء وسائل وأدوات كثيرة عاشت طويلًا في ميادين القتال، وبالمثل شهدت ظهور أسلحة ووسائل جديدة ولدت لتبقى دائمة فيما بعد في المعارك البرية والبحرية. ولأول مرة، على سبيل المثال لا الحصر، عرفت سماء مسارح العمليات بدء الحرب الجوية أثناء الحرب العالمية الأولى وهو ما أحدث تحوّلًا وفارقًا في طبيعة الحرب، وأدّت إلى قطيعة مع كل ما سبق من تاريخ الحروب، كأنها جاءت لتغلق وراءها الباب على أزمنة ولت بكل زخم أعمال القتال في المعارك على اختلافها.

طوال آلاف السنين، ظلت الخيول عامل حاسم في إدارة المعارك، سواء كان يمتطيها الفرسان والقادة أو كانت تستخدم في جرّ العربات الحربية، واستمر وضعها المتميّز في الخطط العسكرية، حتى إنّه كثيرًا ما تغنّى الفارس العربي الشجاع بخيله، واعتبارًا من القرن التاسع عشر في الشرق العربي أصبحت القوات الراكبة للخيول تسمى سلاح السواري، ثم سلاح الفرسان، والذي صار في صيغته الحالية سلاح المدرعات بعد أن حلت الدبابة محل الحصان.

عالميًّا، تواصل الاستعانة بالخيول حتى بداية الحرب العالمية الأولى وفي أثنائها، لكن الأسلحة النيرانية الخفيفة والمدفعية والألغام الأرضية أطاحت بمملكة الخيول، ومع اقتراب هذه الحرب من نهايتها أدرك القادة العسكريون أن دور الخيول في المعارك قد انتهى إلى الأبد، بل إن استخدامها حتى من قبل القادة لم يعد مناسبًا في تفقد القوات أو الاستعراضات العسكرية، وهكذا انسحب الحصان في نهاية الحرب العالمية الأولى مطأطئًا رأسه أمام أسلحة الحرب الحديثة الجهنمية.

سوف يختفي الحصان، لكن ما الذي سوف يعوضه في الحرب العالمية الأولى لتحقيق القدرة على الاختراق وخفة الحركة، هنا ظهرت الدبابة وأول مَن صنعها في هذه الحرب هم البريطانيون، ووقتها أطلقوا عليها تسمية "تانك" Tank، وتعني خزان أو صهريج، وكان سبب هذه التسمية المحافظة على سرية هذا السلاح الجديد. ومن المفارقات اللطيفة أن التسمية شاعت فيما بعد لدى الدول كافة، لكن في اللغة العربية اصطلح على تسميتها "دبابة"، ومن الطريف أن المشروع السري لصناعتها تم في ورش البحرية، وقامت به لجنة سفن البر، وتولت القوات البحرية تدريب طواقمها، باعتبار أن الدبابة سفينة برية ويؤرخ لأول مشاركة فعلية للدبابات في يوم 15 سبتمبر 1916 عندما تم دفع دبابتين من طراز "مارك-1" البريطانية في القتال أثناء المعارك.. هذه الدبابات التي ستغير شكل الحروب فيما بعد كانت بداياتها بائسة ومرتبكة وقدرتها على إنتاج النيران متواضعة.

لم يكن خيال القادة العسكريين على اختلاف جنسياتهم ومدارسهم العسكرية يداعبه أي طيف قبل سنوات قلائل من الحرب العالمية الأولى، في أن السماء سوف تصبح مجالًا مؤثّرًا على العمليات، فقد كانت البشرية حديثة عهد جدًّا باستخدام الطائرات، لكن سرعان ما هضمت ماكينة الحرب فكرة الطائرة ووظفتها في العمليات العسكرية، وكانت البداية التي فتحت الباب على مصراعيه هي الحرب العالمية الأولى، ويشار إلى أن أول قتال جوي جرى في الخامس من أكتوبر سنة 1914 في بدايات الحرب ووقتها، تم سقوط أول طائرة في تاريخ الطيران الحربي، لكن مع نهاية هذه الحرب تطورت كثيرًا أوضاع القوات الجوية في العالم، وإن كان استخدام طائرات القتال في ذلك الحين يقتصر على عدد قليل للغاية من الدول، وقد دارت معارك كثيرة بين الطائرات بعد تزويدها بالرشاشات في سماء أوروبا، وتعددت مهام سلاح الجو ما بين الطائرات القاذفة وطائرات الاستطلاع.. وهكذا أصبحت فرصة تأمل سماء مرصعة بالنجوم والقمر ليلًا في لحظات صمت المدافع مهددة بحمم تأتي من الطائرات.

منذ ما يزيد على ثلاثة آلاف عام دارت أول معركة بحرية وتطورت فيما بعد معارك البحر كثيرًا، لكن مع اندلاع الحرب العالمية الأولى دارت معارك البحر على نطاق واسع، شمل جميع المحيطات وصفحات المياه الموجودة في العالم، بالطبع كان هذا تطورًا غير مسبوق في مسرح الحرب البحرية، لكن اللافت للنظر أن هذه الحرب تسببت في ظهور قطعة بحرية ظلت من يومها هي الأكبر والأضخم في أساطيل البحار على امتداد تاريخها.. نعم لم يكُن خيال ربابنة البحر يجنح لتصوّر بناء قطعة بحرية تمخر عباب البحار تقلع وتهبط الطائرات على سطحها، بسبب أن عمر الطائرة لم يكن قد تجاوز سنوات قلائل، فقد دشنت أول حاملة طائرات في ترسانات الجيوش أثناء الحرب العالمية الأولى عام 1918 في الولايات المتحدة.. وهكذا أصبحت هذه الجزيرة العائمة التي تجوب البحار والمحيطات قاعدة جوية قربت للطائرات المسافة للأهداف حول العالم بعد انتفاء الحاجة إلى القواعد الأرضية.

أسوأ ما تم استخدامه في الحرب العالمية الأولى كان الأسلحة الكيماوية التي أطلقت على نطاق واسع بين الأطراف المتحاربة وخلفت وراءها قرابة 100 ألف قتيل ومليون مصاب، عاش أغلبهم في معاناة طوال حياتهم، مما حدا بـ"دوران كارت" أمين المتحف الوطني للحرب العالمية الأولى في مدينة كانساس، إلى القول "الأقنعة الواقية من الغاز بمظهرها البشع أصبحت رمزًا لتحول الإنسان إلى شبح أفرغته الحرب الحديثة من إنسانيته"، وبسبب قسوة ولا آدمية هذا السلاح لم تستخدم الغازات الحربية في الحرب العالمية الثانية.

انتهت الحرب العالمية الأولى بمعاهدة فرساي التي تسببت في الكثير من الاستياء لدى الألمان نتيجة التعويضات المالية المبالغ فيها والتي أنهكت بضراوة اقتصاد برلين، إضافة إلى القيود بالغة الصرامة على تكوين وتسليح الجيش الألماني، وكلها عوامل جعلت الشعب الألماني يشعر بالظلم والخزي، وهذا ما استغله أدولف هتلر في صعوده إلى السلطة، كأن هذه المعاهدة كانت تحمل في أحشائها جنين الحرب العالمية الثانية.