عندما كانت الصواريخ تنهال على لندن أثناء الحرب العالمية الثانية كانت الحيرة والقلق والدهشة تستبد بالقادة العسكريين في بريطانيا، لأن أجهزة الرادار لم تكن ترصد غارات جوية من طائرات النازي القاذفة، ولم يسمع لها صوت في سماء المدينة.

واستمر الغموض طويلًا إلى أن سقط أحد الصواريخ دون أن ينفجر، عندها زال الارتباك، وأدرك الحلفاء طبيعة السلاح الخفي الذي كان يهددهم، بعد أن جعلتهم الصدفة يهتدون إلى السر الذي أعياهم.

ما إن سقطت برلين في نهاية الحرب العالمية الثانية تبارت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق في صراع محموم لاقتناص علماء الصواريخ الألمان، حيث قامت وكالة المخابرات الأميركية بعملية سرية أطلق عليها في البداية، في يوليو 1945، مصطلح "أوفركاست"، وهو اسم المعسكر المحاط بدرجة فائقة من السرية والحماية الأميركية في ولاية بافاريا التي كانت خاضعة للحلفاء، في هذا المعسكر تم تجميع العلماء الألمان الذين أمكن رصدهم واعتقالهم، وتغير اسم العملية بمصطلح جديد هو "مشبك الورق"، نتيجة استخدام مشابك الورق في الإمساك بملف حالة كل عالم ألماني، وفي شهر سبتمبر من عام 1946 أصدر الرئيس الأميركي هاري ترومان مرسومًا رئاسيًّا بأعلى درجات السرية بإنشاء مشروع الصواريخ الأميركي، بعد إحضار أكثر من 1600 عالم صواريخ من خيرة العلماء في هذا المجال من ألمانيا إلى الولايات المتحدة، كانوا النواة التي أسست لعلوم ومشروعات بناء الصواريخ الأميركية.

على الجانب الآخر، نفذ الروس مهمة مماثلة، في الجزء التابع لهم من ألمانيا بعملية أطلق عليها مصطلح "أوسوافياخيم"، وهي منظمة عسكرية وعلمية اختصت في ذلك الوقت في جانب أساسي منها بأبحاث الطيران والأنشطة الجوية، حيث قام الجيش الأحمر، بنقل ما يناهز 1500 عالم ومتخصص في مجال الصواريخ بعائلاتهم وكم كبير من المعدات المستخدمة في المراكز البحثية لإنتاج الصواريخ والمواد المستخدمة لذلك، بل ومنتج متكامل من الصاروخ البدائي V-1 بعد أن استولى الأميركيون على الوثائق والأجهزة والصاروخ الأحدث المتطور للغاية V-2 من أنفاق منشأة "ميتلويرك"، التي كان على الأميركيين تسليمها طبقًا لتقسيم ألمانيا للسوفيات، وتمت عملية النقل تحت جنح الظلام في 22 قطارًا إلى مركز أولى للتجميع والفرز في موسكو، لكن الروس على عكس الأميركيين استثمروا عقول وخبرات العلماء الألمان لفترة امتدت حتى عام 1952 فقط، ثم اعتمدوا على علمائهم مِن السوفيات فحسب في تطوير مشروع الصواريخ الخاص بهم، أعقب التخلي عن العلماء الألمان وترحيلهم إلى ألمانيا الشرقية تسرب بعضهم إلى الولايات المتحدة، ومنهم المهندس "فريتز كارل بريكشات" الذي حقق في أميركا اختراعات مهمة جدًّا في مجال الطيران.

في الولايات المتحدة تم التغاضي عن ماضي العلماء الألمان أعضاء الحزب النازي، بمن فيهم من تعاونوا عن كثب مع النازي، وبعد فترة منحت واشنطن الجميع الجنسية الأميركية، ومنهم رائد مشروع الصواريخ الألماني الفذ فيرنر فون براون، الذي كانت له اليد الطولى خلال الرايخ الثالث، وتقلد منصب المدير منذ العام 1940 في مشروع صواريخ النازي، وأنتج أثناء الحرب العالمية الثانية صاروخ الرعب وقتها (فاو-2)، وصار عضوًا في منظمة "شوتزشتافل" التي يقودها هتلر شخصيًّا، ومنح وسام صليب الاستحقاق الحربي من ألمانيا النازية عام 1944، غض الطرف تمامًا عن التاريخ السابق لفون براون، لكن المفارقة الكبرى واللافتة أن رئيس الولايات المتحدة منحه في عام 1975 قلادة العلوم الوطنية الأميركية، تقديرًا لإسهاماته في بناء وتطوير مشروع الصواريخ الأميركي، وهكذا جمع بين أرقى الأوسمة النازية والأميركية، ثم ترقى لدرجة تعيينه كأول مدير في "مركز مارشال" الذي استحدث في وكالة "ناسا"، ليصبح مسؤولًا عن صواريخ البرنامج الفضائي الأميركي.

على الجانب الآخر، في الاتحاد السوفياتي كانت هناك شخصية عبقرية واستثنائية حملت على أكتافها برنامج الصواريخ السوفياتي، صاحبها هو سيرجي بافلوفيتش كوروليوف، وكما في الولايات المتحدة أصبح مشروع الصواريخ أولوية وطنية، حيث أشرف كوروليوف على 170 من أهم العلماء الألمان في جزيرة تنعم برفاهية ومحاطة بحراسة مشددة بالقرب من موسكو، وفي مرحلة لاحقة انفرد كوروليوف بتطوير المشروع وتولى بفريقه الشخصي من السوفيات فقط إنجاز الصواريخ الباليستية بعيدة المدى، وصواريخ الفضاء، بعد صدور مرسوم من ستالين بإخضاع ملف الصواريخ للسيطرة العسكرية، حيث أظهر كوروليوف في الهيئة المختصة بذلك قدرات علمية وتنظيمية فائقة.

وإذا كان لأبو مشروع الصواريخ الألماني ثم الأميركي فيرنر فون براون حظ من المفارقة في حياته، فقد تغلب عليه سيرجي بافلوفيتش كوروليوف في مفارقة أكثر درامية، ذات أبعاد ثلاث، كان أولها أنه تعرض للاعتقال في حملات التطهير الفظيعة التي قام بها ستالين، وأرسل إلى سيبيريا ليفرج عنه لاحقًا، ويصبح من أعظم العلماء إن لم يكن أعظمهم في مجاله في تاريخ الاتحاد السوفياتي كله، وكان ثانيها أنه بينما نال فون براون حظًّا كبيرًا من الألق الإعلامي إلا أن كوروليوف كان حبيس الظل، حيث كان شخصه موضع سرية باتة ومطلقة داخل وخارج الاتحاد السوفياتي، أما ثالث اختلافات المفارقة فهي تعود للوقت الحالي، الذي تدور فيه المعارك بين روسيا وأوكرانيا، لأن كوروليوف من مواليد مدينة "جيتومير" الكائنة في شمال النصف الغربي من أوكرانيا.

لم تكن الصواريخ حين طورها العلماء الألمان سلاحًا يستخدم على الإطلاق أثناء الحروب، ولم يكن أحد طورها إلى هذا الحد في العالم كله شرقًا وغربًا سوى الألمان، ولأن الأسلحة والمعدات التي تستجد على ترسانات الجيوش غالبًا ما يمتد أثرها ويطور متطلبات الحياة المدنية، لم تشذ الصواريخ عن هذه القاعدة، ورغم أنها تحولت إلى سلاح مؤهل لحمل رؤوس نووية فتاكة ترسانتها قادرة على إفناء البشرية فإنها كانت فاتحة خير عظيم للبشرية، بإطلاقها كي تضع الأقمار الصناعية في مداراتها، تلك الأقمار التي حققت مكاسب هائلة للإنسان، كما مكنت الصواريخ أيضًا العلماء من اكتشاف الفضاء الخارجي.