ثمّة طريقةٌ «منهجيّة» في قراءة التّراثاث الفكريّة الإنسانيّة، والعلاقات بينها، توفّر إمكاناً لِمَن يبغي نَسْخَ تراثٍ مّا منها ومَحْوَه، من طريق تفكيك بنيته إلى عناصرَ تكوينيّة وردِّ كلّ عنصرٍ منها إلى مصادر سابقة استُقِيَ منها.

هكذا تُسْفِر هذه الطّريقة من المقاربة عن تبديد الموضوع المدروس، وتغييبِ حلْقته في سلسلة التّطوّر الفكريّ والحضاريّ، بتصويره وكأنّه تجميعٌ ولَفْقٌ (Compilation) لعناصرَ برّانيّة ليس فيها ما هو أصيل فيه.

هذه الطّريقة المنهجيّة، التي ازدهرت في القرنين التّاسع عشر والعشرين، في دراسة الفكر والحضارة هي الفيلولوجيا: وهي من منتوجات المدرسة التّاريخانيّة الألمانيّة.

ما من شكّ في أنّ المنهج الفيلولوجيّ أدّى خدمةً معرفيّةً جليلة للدّرس التّاريخيّ، عموماً، ودراسات تاريخ الفكر خاصّة؛ فلقد سمح بتتبُّع خطّ تطوُّر الأفكار واللّغات في التّاريخ، وأشكال التّأثير والاستيعاب التي مارسها فكرُ مجتمعٍ وثقافتُه ومنظومةُ قيمه على آخر. وساهم هذا في إطْلاعنا على وجوه التّبادل الثّقافيّ بين المجتمعات والحضارات، وفي اكتشاف المشتَرَكات بينها و، بالتّالي، في تخطّي تلك النّظرة إلى موروث ثـقافيّ مّـا بوصفه خاصّاً بجماعـةٍ إنسانيّـة بعينها (= شعب، أمّة) لا يشترك معها غيرُها فيه. غير أنّ مزايا الفيلولوجيا هذه كانت تصطدم، أحياناً، بأنماطٍ من الاستخدام المُغْرِض وغير العلميّ لها في كثيرٍ من الدّراسات، فتنتهي بها إلى التّعسّف!

بدأ الدّرس الفيلولوجيّ للإسلام وتراثه في أوائل القرن العشرين. وسرعان ما تحوّل من اللّغة والنّحو إلى الدّراسات القرآنيّة. ولمّا كان دارسو النّصّ القرآنيّ من مستشرقين متعدّدي الانتماءات الدّينيّة (مسيحيّين، حاخامات يهود)، كان من الطّبيعيّ أن يسعى كلٌّ منهم إلى إثبات المصادر الدّينيّة للقرآن الكريم انطلاقاً من مصادره الدّينيّة هو (العهد القديم، العهد الجديد). هكذا وقعتِ العودةُ بتعاليم الإسلام - في كثيرٍ من تلك الدّراسات - إلى تعاليم التّوراة أو إلى تعاليم السّيّد المسيح، على نحو ما وردت في الأناجيل الأربعة، فرُدّ كلٌّ منها إلى «أصل» توراتيّ أو مسيحيّ، وكانت النّتيجة إهدارَ أصالة النّصّ القرآنيّ. وهذا ما يفسّر لماذا لم تتحرّج أعمالٌ أخرى لمستشرقين آخرين في إبدائها الشّكَّ في مصدريّته الإلهيّة. ولم تبدأ دراسات القرآن تستقيم في أعمال المستشرقين إلاّ حين أرساها المستشرق الألمانيّ ثيودور نولدكه على الأسس العلميّة للفيلولوجيا في كتابه «تاريخ القرآن» الذي أكمله شڤالي وصدر في ثلاثة أجزاء.

في الـفترة عينِها، تقريباً، التي ازدهـر فيها الـدّرس الاستشراقيّ للنّصّ القـرآنيّ (منتصف القرن 19)، انطلق البحث في التّراث الفكريّ العربيّ الإسلاميّ، وخاصّةً في الفلسفة، مع المستشرق الفرنسيّ إرنست رينان. ولم يلبث أن شاع معه - منذ أطروحته للدّكتوراه عن «ابن رشد والرّشديّة» (1852) - حكمٌ متعسّف، قادتْهُ إليه مقاربتُه الفيلولوجيّة، يقضي بأنّ الفلسفة العربيّة الكلاسيكيّة لا تعدو أن تكون فلسفةً يونانيّة مكتوبةً بحروف عربيّة، وأنّه لا أصالةَ فيها بالتّالي! فيما نشر رينان نفسُه فكرةً أخرى مفادها أنّ التّفكير الفلسفيّ الوحيد عند العرب والمسلمين هو ذاك الذي يمثّله علم الكلام. ولم يكن الأوروبيّون وحدهم من تأثّروا بأفكار إرنست رينان هذه وردّدوها، بل شاركهم في ذلك مفكّرون عرب أخذوها عنه مثل فرح أَنْطُون، في دراسته عن بن رشد، والشّيخ مصطفى عبد الرّازق في دروسه في قسم الفلسفة بالجامعة المصريّة.

نكتفي بالمثالين السّابقين لبيان فساد هذا النّوع من النّظرة التّبديديّة لتراث الإسلام، علماً أنّها طُبِّـقت على معظم ذلك التّراث (الفقه وأصول الفقه، والفكر السّياسيّ، والتّصوّف...). ومَوْطن الزَّلل في هذه القراءة الفيلولوجيّة التي ترُدّ كلّ أثرٍ فكريّ إلى أصولٍ برّانيّة عنه و، بالتّالي، تعدم أصالتَه في أنّها تذهل عن حقيقتين:
أُولاهما أنّ الأصول والمصادر لا نهائيّة حكماً. وعليه، حين يعيدون تعاليم الإسلام إلى أصول يهوديّة أو مسيحيّة لا يتساءلون عن أصول هذه أيضاً: هل هي فرعونيّة أو كلدانيّة أو غير ذلك ممّا تقوله دراسات معاصرة؟ وكذلك الشّأن في الفلسفة: أليس مشروعاً، أيضاً، البحث في أصول الفلسفة اليونانيّة في تراثاث شعوب أخرى مجاورة؟ إنّ مشكلة الفيلولوجيّين الغربيّين تكمَن في أنّهم يطبّقون منهجهم التّفكيكيّ هذا بشكلٍ انتقائيّ: على تراثاث بعينها فيما يستثنون تراثهم القديم من ذلك! وعندي أنّ الحديث في الأصول لن يترك شيئاً على حاله، ولن يكون من ورائه غير الطّعن على أصالةِ كلّ ما هو موجود في التّاريخ من ثقافات وحضارات وأديان... الأمر الذي سيجعلها جميعُها نسخاً متفرّعة عن أصول بعيدة مجهولة سيظلّ يُبْحَث عنها إلى ما شاء الله!

وثانيهما أنّ التّأثير المتبادَل بين الثّقافات واللّغات والحضارات أمرٌ واقع موضوعيّ وتاريخيّ؛ فما من ثقافةٍ أو حضارة استقلّت بذاتها عن كلّ تأثيرٍ خارجيّ، بل كانت الواحدة منها، دائماً، عصارةً لِما قبلها تحمل في جوفها بعضاً ممّا كان قبلها. غير أنّ الفارق كبيرٌ بين أن يتقصّى الباحث أشكال وجود السّابق في اللاّحق فلا يقرأ في ذلك سوى أنّ اللاّحق يستنسخ السّابق، وأن يسعى إلى البحث في البنية الجديدة التي تدخل فيها العناصر القديمة فتكتسب دلالات مختلفة عن تلك التي كانت لها في بنية سابقة. من هنا، فقط، يبدأ البحث العلميّ: من البحث في البنيات والعـلاقات لا في الأصول والمُشابِهات.