ما إن تحوَّل ڤيروس كوڤيد 19 من ڤيروس مجهول - إلاّ عند علماء الڤيروسات - إلى وباءٍ معلوم يجتاح العالم من أقصائه إلى الأقصاء، حتّى وُضِعَ الوجودُ الإنسانيّ برمّته قيْد امتحانٍ قاسٍ لاختبار مدى قدرته على جَبْه الأخطار التي تُحْدِق به وتتهدّد الحياةَ وقانون البقاء.

كان امتحاناً وجوديّاً حقّاً؛ لأنّ على نتائجه يتوقّف ما إذا كان قانون البقاء محاطاً بضمانات الحماية الإنسانيّة والصّون والتّأمين أو معرَّضاً لاحتمالات الانتقاض والانتقاء وافْتجاء الطّوارئ المُوديةِ  به. ومع أنّه عَرَضَتْ للإنسان في تاريخه امتحاناتٌ وجوديّة عدّة من هذا القبيل؛ أكان هو مَن أوقع نفسَه فيها، مثل الحروب، أو كانت الطّبيعة مَن فرضها عليه (كوارث الأعاصير والزّلازل والحرائق...)، إلاّ أنّها تأتي، في الأغلب، جزئيّةً أو موضعيّة خاصّة برقعة جغرافيّة بعينها؛ وليست هذه حال امتحان وباء كورونا الذي اجتازته البشريّةُ رُمّةً ومن غير استثناءِ صُقْعٍ أو شعبٍ أو جماعةٍ أو فرد...

كان امتحاناً بهذا المعنى لأنّه امتحن لا الوجودَ الإنسانيّ كوجودٍ حيويّ أو بيولوجيّ فحسب، بل امتحن - بالتَّبعة - ما في حوزة ذلك الوجود الإنسانيّ من عُدَّةٍ وعتادٍ لمقاومة الأخطار وتأمين شرائط البقاء. لذلك وضَع كلَّ موارد هذا الوجود من ذكاءٍ وعقلٍ ومَلَكاتٍ وقدرةٍ ذهنيّة على اجتراح الأفكار موضعَ اختبارٍ و، بالتّالي، كان على الوباء أن يمتحن - في هذا السّياق -  مجموع السّياسات والمؤسّسات والنّماذج المطبّقة والخيارات التّنمويّة والعلاقات (الدّاخليّة والخارجيّة) التي توسَّلَتْها البشريّةُ المعاصرة واعتمدتها أدواتٍ للعمل داخل كياناتها الاجتماعيّة (الوطنيّة والقوميّة) وفي ما بين هذه على صعيدٍ كونيّ عامّ. لقد كانت هذه جميعُها في حال حربٍ مع الوباء، فهل تراها اجتازت امتحان تلك الحرب بنجاح أو، على الأقلّ، «خرجت» من تجربتها القاسيّة والمريرة بأقلّ الخسائر؟

سيكون من المكابرة أن يقال إنّ العالم صَمَد في وجْه عاصفة الوباء الهوجاء وغالَبَ مفاعيلها، وحدَّ من أضرارها على الحياة والوجود الإنسانيّ. صحيح أنّ الإسعافات الاستشفائيّة والإجراءات الاحترازيّة من انتشار الوباء، ثمّ اللَّقاحات التي اهتدت كبرى مختبرات العالم إلى إنتاجها ثمّ إلى تصنيعها فتطعيم ملايير النّاس بها، احتوتِ الكثيرَ من أذى الوباء واصطنعت بنيةً دفاعيّةً حمائيّة في وجْه تمدُّده. ولكن من ذا الذي يتجاهل حقيقة أنّ ربُع مليار إنسان ويزيد أصيب به في أقلّ من عامين، وأنّ ما يزيد عن الخمسة ملايين من المصابين قضوا به؟ ومَن  يتجاهل أنّ  ملايير  آخرين  من النّاس - في بلدان الجنوب خاصّةً - لم تصلهم لقاحات من الدّول الكبرى المنتِجة لها، ولا تتمتّع بلدانُهم بأنظمةٍ صحيّة قادرة على احتواء ضغط الوباء، الأمر الذي تتهدّد حياتَهم مخاطرُ الإصابة بالوباء؟ هل قليلةٌ هي، إذن، هذه الخسائر البشريّة التي حصدها العالم من جائحة كورونا ليكون لأيّ مكابرةٍ مكانٌ في الخطاب عن الوباء وحصيلته؟

والحقّ أنّه لو جرتْ كتابةُ حصيلةٍ إجماليّة لخسائر هذين العامين من الجائحة، لَتَكَشَّف للجميع مقدارُ ما لَحِقَ النّاسَ والمجتمعات والدُّول من عظيم المصائب التي تعسّرت معها سبُل الحياة. ليس في حوزتنا أرقام رسميّةٌ دوليّة عن حجم تلك الخسائر التي منيت بها البشريّة حتّى الآن، والتي ستستمرّ - قطعاً - في امتداد استمرار الوباء لفترة قادمة. ولكن، لدينا من البيّنات على تلك الخسائر ما لا حصر له:

ألم تتوقّف الدّورة الاقتصاديّة والإنتاجيّة في العالم لأشهرٍ متفاوتة المدى، نتيجة إجراءات الإغلاق الكامل للحدود ولوحدات الإنتاج وفرْض الحَجْر الصّحيّ، فتولَّد منها تسريح مئات الآلاف من العاملين والأطر في قطاعات مختلفة من الصّناعة والتّجارة والخِدْمات، ليتّسع بتسريحها جيش العاطلين من ذوي الكفاءات؛ مثلما تولَّد منها اتّساعُ نطاق الفقر والحاجات في مناطقَ واسعة من العالم، ناهيك بارتفاع الأسعار وتراجُع القدرة الشّرائيّة... إلخ؟

ألم تُضْرب في القلب قطاعات اقتصاديّة حيويّة في العالم مثل المبادلات التّجاريّة والسّياحيّة، ليستتبع ذلك ما يشبه الإفلاس لشركات الشّحن البريّ ولشركات الطّيران المدنيّ، فضلاً عن البنى السّياحيّة التي تعيش منها عشرات الملايين من الأسر في العالم، هذا دون الذي أصاب شركات التّأمين بأبلغ الأضرار؟

ألم تتعرّض المنظومات التّعليميّة، في جهات الأرض كافّة، لخَللٍ واضطرابٍ هائلين في عملها لِتَوَقُّف التّكوين والدّراسة فيها لفترات، أو للاعتياض عن التّدريس الحضوريّ المباشر بالتّدريس عن بعد، على ما يكتنف الأخير من معضلات بيداغوجيّة لا حصر لها. وهو ما يهدّد، إجمالاً، بالنّيل من المستوى العلميّ للتّكوين الذي تلقّاهُ ملاييرُ التّلامذة والطّلاّب في العالم خلال العامين المنصرفين وربّما في المرحلة القادمة؟

هذه جميعُها خسائر، وغيرُها كثير، عدا الأرواح التي حصدها الوباء. بل من أيّ باب وَلَجْتَ إلى الإحصاء تُلْفِي ما لا حصر له من الأضرار الجسيمة. ولا تبدو، حتّى الآن، نهايةٌ لهذا النّفق الكالح الذي زُجّتِ البشريّة فيه منذ نهاية العام 2019، الأمر الذي يعني أنّ علينا أن نظلّ قيْد هذا الامتحان الوجوديّ لزمنٍ غيرِ معلوم!