يثور جدلٌ واسعٌ في السّودان، وداخل نخبه السّياسيّة والمدنيّة بالتّحديد، حول دور المؤسّسة العسكريّة في الحياة السّياسيّة للبلاد. ويبدي قسمٌ كبير من تلك النّخب تبرُّمه من توسُّع أدوارها في حقل السّياسة الدّاخليّة، معيداً التّذكير بأنّ وظيفتها الأساس، التي من أجل أدائها هي مجعولة، هي حماية سيادة البلاد وأمنها القوميّ لا التّنزُّل في منزلة الشّريك في المنافسة السّياسيّة الدّاخليّة.

زاد معدّلُ الجدل هذا بعد أن أقدمت قيادة الجيش على إزاحة الرّئيس السّابق عمر حسن البشير من السّلطة، تجاوُباً مع مطلبٍ شعبيّ بإسقاطه عبّرت عنه انتفاضة عارمة ممتدّة ضدّه، منذ منتصف ديسمبر 2018 حتّى إزاحته في الحادي عشر من أبريل 2019، وإقامتها مجلساً انتقاليّاً يدير السّلطة في البلاد. وحتّى حينما وُقِّع اتّفاق تقاسُم السّلطة بين العسكريّين والمدنيّين، في منتصف الشّهر الثّامن من العام 2019، وعَيَّن مجلس السّيادة عبد الله حمدوك رئيساً للوزراء في العشرين من الشّهر نفسه وفقاً لمقتضيات الإعلان الدّستوريّ، لم يتوقّف التّعبير عن التّذمّر من دور الجيش السّياسيّ، ليبلغ ذراهُ غداة حلّ الحكومة في 25 أكتوبر الماضي وإمساك قيادة الجيش بمجلس السّيادة.

ما من غرابةٍ في أن يثور مثلُ هذا الجدل في بلدٍ ظلّ، منذ العام 1958، محكوماً من قِبل الجيش إلاّ في فترات نادرة قادتْه فيها نخبٌ مدنيّة. قد يكون مَبْعث الغرابة في انتظار حيادٍ سياسيّ كامل من قِبل المؤسّسة العسكريّة في شؤون السّودان الدّاخليّة، أو في انتظارٍ انكفاءٍ تامٍّ منها إلى مجال الدّفاع عن السّيادة والأمن القوميّ حصراً. ليس من الواقعيّة تخيُّل إمكان ذلك في بلدٍ ما تزال فيه الدّولة ضعيفة، والسُّلطة السّياسيّة أضعف، ومواردُها الاجتماعيّة (الأحزاب، النّخب السّياسيّة، مؤسّسات التّمثيل الشّعبيّ...) أشدُّ ضَعْفاً حتّى من القبيلة والطّوائف الصّوفيّة؛ إذ كيف ستكون عليه حال السّلطة في ظلّ انقسامٍ اجتماعيّ وسياسيّ حادّ كالذي في السّودان، والذي زادت معدّلاتُه حتّى عن ذاك الانقسام الذي كان قائماً إبّان حكم المدنيّين البلادَ (1986-1989)، وقيام سلطة الترويكا بين «حزب الأمّة» (الصّادق المَهْديّ)، والاتّحاديّ الدّيمقراطيّ (أحمد الميرغني)، و«الجبهة القوميّة الإسلاميّة» (حسن التّرابيّ). الانقسام اليوم أشدُّ من ذي قبل، بل أسوأ إنْ أخذنا في الحسبان تراجُع القدرة التّمثيليّة والتّنظيميّة للأحزاب السّياسيّة.

قد تكون عهودٌ سياسيّة مُظلمةٌ، في التّاريخ الحديث للسّودان، وراء نكبة السّياسة والحياة السّياسيّة والأحزاب في البلاد؛ وتلك هي الحال في عهود الجنرال إبراهيم عبّود (1958-1964)، وجعفر نميري (1969-1985)، ثمّ عمر حسن البشير (1989-2019). ولكنّ مؤسّسة الجيش لم تكن مسؤولة عمّا جرى من تخريبٍ للحياة السّياسيّة ولا مصلحة لها في ذلك، وليس لأحدٍ أن يحمِّلها أوزار قياداتها التي وصلت إلى السّلطة بالقوّة وأساءت إلى المجتمع السّياسيّ وإلى الجيش في الآن عينه. وآيُ ذلك أنّ تصفيات هؤلاء الحكام لقياداتٍ وقطاعاتٍ في الجيش لم تتوقّف منذ ستِّين عاماً، وكان القائمون عليها يتحيّنون الفرصة للوصول إلى السّلطة لتنظيم مثل تلك التّصفيّات؛ لا بصفتهم قادةَ جيش، هذه المرّة، بل بوصفهم قادة دولة!

والحقيقة التي لا يجحدها كثيرون في السّودان، وخارج السّودان، هي أنّ مؤسّسة الجيش لم تقف ضدّ إرادة الشّعب في التّغيير، إلاّ في حالات نادرة كان رئيس السّلطة يُمسك بمقاليدها عبر أزلامه (كما في عهديْ نميري والبشير)، بينما ظلّت تتجاوب مع تلك الإرادة الشّعبيّة كلّما عبّرت عن نفسها في صورةٍ جمعيّة. بل حتّى في عهديْ نميري والبشير وقف الجيش مع الشّعب وسَهَّل له بلوغ هدفه (إسقاط النّظام) من طريق قيامه هو (= الجيش) بإزاحة رأس النّظام وبطانته. وفي الحاليْن، لم يُمسك السّلطة إلاّ لفترة انتقاليّة ليسلّمها، بعد ذلك، للمدنيّين. هكذا فعل الفريق الرّاحل عبد الرّحمن سوار الذّهب، في العام 1985، بعد انتفاضة الشّعب؛ وهكذا تفعل السّلطة الانتقاليّة اليوم، والتي لم تعد عسكريّة، منذ صيف العام 2019، بل مختلطة: عسكريّة- مدنيّة.

ليس غرضي، هنا، أن أدافع عن مؤسّسة الجيش في السّودان وعن دورها في الحياة السّياسيّة؛ مبتغاي التّذكير بحقيقتين من تاريخ السّودان الحديث، والتّشديد على مبدإٍ في الوقت عينه. الحقيقتان تيناك هما: أنّ الجيش لم يرُدَّ مطلبَ التّغيير أو يعاكس إرادته، بل كان شريكاً فيه شَراكةً من أخرجهُ من القوّة إلى الفعل، إنِ استعرنا مفردات أرسطو؛ وأنّه اليوم شريكٌ للشّعب في إزاحة نظام البشير و«الإخوان»، وشريكٌ للقوى المدنيّة في مؤسّسات السّلطة الانتقاليّة وفي وضع الأسس، السّياسيّة والدّستوريّة والقانونيّة، للانتقال إلى الحكم المدنيّ. أمّا المبدأ فهو أنّه ما من مصلحةٍ لأيّ حركةٍ للتّغيير أن تستعديّ الجيش أو ترميه بتُهم التربُّص بها؛ لأنّه ما من تغييرٍ نجح إلاّ وكان الجيش مؤيّداً له - أو غير معارض على الأقلّ - وما من تغيير فشل إلاّ لأنّ الجيش ساند النّظام أو لم يلتزم موقف الحياد. وظنّي بقوى التّغيير في السّودان أنّها تدرِك أكثر من غيرها أنّ التّفاهم مع مؤسّسة الجيش، اليوم، هو الطّريق الأقصر لعبور مرحلة الانتقال نحو نظامٍ مدنيّ سياسيّ مستقـرّ.