في مقالنا السابق الذي طرح تساؤلا فحواه: هل تراجعت القوى الناعمة العربية؟ تطرقنا إلى تغير مفهوم القوة الناعمة، وظهور محاولات كثيرة لتحليله وقياسه، وصدور تقارير ترتب الدول على مقياس للقوة الناعمة يضع معايير متعددة لقياس تلك القوة لكل دولة، هذه المعايير تتجاوز الفن والثقافة إلى عناصر أخرى أكثر شمولا وأهمية.

وكان من أهم المحاولات لقياس هذا المفهوم وضبطه، وفقا لمعايير محددة قابلة للقياس، هو مؤشر «القوة الناعمة 30»، وهو مؤشر سنوي طوره في عام 2015 مركز الدبلوماسية العامة (CPD) التابع لجامعة جنوب كاليفورنيا، بالتعاون مع شركة «بورتلاند» البريطانية للعلاقات العامة، لقياس قدرة دول مختلفة على التأثير في البلدان الأخرى عن طريق قيمها الاجتماعية، بدلا من الأموال أو الأسلحة، وصولا لقائمة بأعلى 30 دولة امتلاكا للقوة الناعمة.

وتقوم الجهات المطورة للمشروع بوضع القائمة، انطلاقا من مؤشرات «موضوعية» مثل صيغة إدارة الدولة ومدى جودة المؤسسات السياسية فيها، ومدى جاذبية النظام الاقتصادي للدولة ومدى الانتشار الثقافي للدولة عالميّا، ومدى سمعة وشهرة نظام التعليم العالي الخاص بالدولة خارجيا، ومدى مشاركة الدولة في حل القضايا العالمية وقوة العلاقات الدبلوماسية للدولة وعدد الدول التي يستطيع مواطنو الدولة زيارتها، من دون حاجة للحصول على تأشيرة دخول، ومدى التواصل الرقمي والتكنولوجي للدولة، أما المؤشرات غير الموضوعية، فيتم تحديدها انطلاقا من نتائج استطلاعات آراء في 25 دولة.

ومن الأسئلة التي طرحت على المشمولين بالاستطلاع: تقييم المطبخ القومي لدولة ما، والسلع التي تنتجها الدولة، بما في ذلك السلع التكنولوجية والكماليات، ونظافة شوارع المدن، والترحيب الذي يتلقاه الزوار من قبل السكان، ومدى الإسهام في الثقافة العالمية، ومدى جاذبية الدولة كمكان للعمل أو الزيارة أو الدراسة.

وقد أعطى التقرير وزنا نسبيا لكل مؤشر من المؤشرات الموضوعية الستة يعكس مدى أهميته في تقييم القوة الناعمة للدولة، وبالنظر إلى الوزن النسبي لكل عنصر من هذه العناصر، يمكن تفسير لماذا تحتل الصين – مثلا- مرتبة متأخرة دائما في مؤشر القوة الناعمة، فتذيلت المؤشر في نسخته الأولى عام 2015، وفي نسخة 2016 احتلت المرتبة الـ28، وفي نسخة 2017 جاءت في المركز الـ25  وفي نسختي 2018 و 2019 حافظت على الترتيب الـ27 من بين الـ30 دولة،  وذلك على الرغم مما لديها من ثروة من أصول القوة الناعمة، عندما يتعلق الأمر بالثقافة والتاريخ، كما أن حجم سكانها الكبير يعطيها قوة وجماهيرية شعبية ونفوذًا سياسيا، وكذلك قوة اقتصادها جعلتها قطبا اقتصاديا دوليا، ولكن مع كل تلك المقومات الناعمة تذيلت الصين الترتيب منذ انطلاقه، لأن النظام السياسي فيها لم يواكب الدينامية الاقتصادية للبلاد.

ووفقا لهذه المؤشرات أيضا، يمكن تفسير لماذا خرجت كل الدول العربية من التصنيف،  فعلى الرغم مما تملكه دولة مثل مصر من عمق تاريخي وموروث حضاري وثقافي ضخم، فإن هذا الموروث لم يكن شفيعا، لدخولها قائمة أكثر 30 دولة امتلاكا لمقومات القوة الناعمة بالنظر إلى أوجه النقص الشديدة التي تعانيها في بقية المؤشرات، لا سيما المؤشر المتعلق بجودة النظام التعليمي، حيث تحتل مصر دائما مركزا متراجعا في مؤشر جودة التعليم العالمي الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، كذلك فيما يتعلق بعدد المقالات المنشورة في الدوريات العلمية والتقنية حيث بلغ هذا الرقم، وفقا لإحصاء للبنك الدولي 9199 مقالة في 2013، أما المؤشر المتعلق بالإنتاج الرقمي، فتحتل مصر المركز 107 من بين 193 دولة في مسح الأمم المتحدة للحكومات الإلكترونية، كما تأتى دائما في ذيل المؤشر العالمي لسرعة الإنترنت، حيث احتلت في تقرير عام 2017 المركز 129 من بين 134 دولة شملها التقرير.

حتى في المؤشر المتعلق بالإنتاج الثقافي، والذى كانت تستقي منه مصر مصادر قوتها الناعمة حدث فيه تراجع كبير لا يحتاج إلى جهد لتبينه أو إحصاءات لرصد مدى التدهور الذي أصابه، وإن كان ذلك لا يمنع من إشارة سريعة لبعض بيانات الجهاز المركزي للإحصاء في مصر والتي رصدت تراجعا كبيرا في أعداد دور العرض السينمائي من 269 دور عرض في عام 2013 إلى 65 دار عرض فقط في 2016، فيما خلت 8 محافظات تماما من وجود أي دور عرض، كذلك فيما يتعلق بعدد حفلات الفرق المسرحية العامة التي تراجعت من 959  حفلة في عام 2003 إلى 482 حفلة في عام 2012. وبالتأكيد فإن اللجوء لمزيد من الإحصاءات في بقية القطاعات الثقافية والفنية سيثبت حالة مماثلة من التراجع ربما سببها انسحاب الدولة من كثير من هذه القطاعات.

في المقابل، تستطيع هذه المؤشرات تفسير لماذا تحتل دول، مثل فرنسا وبريطانيا وأمريكا، صدارة «مؤشر القوى الناعمة 30» منذ إطلاقه وحتى الآن، متبادلة المركز الأول فيما بينها. فعلى سبيل المثال، برر المؤشر احتلال بريطانيا صدارته في نسخة 2015 بالتأثير الذكي التي جلبته بريطانيا عن طريق فريق البيتلز، ومجموعة أفلام هاري بوتر، وأعمال شكسبير، وشهرة ديفيد بيكهام، وتأثير العائلة المالكة، وجماهيرية الدوري الإنجليزي، وجودة جامعاتها، وجاذبية نظامها السياسي، ونجاحها في استضافة دورة الألعاب الأولمبية لعام 2012 التي مكنتها من استعادة ثقتها وتأثيرها الدولي بشكل كبير. وتمكنها من جلب استثمارات أجنبية مباشرة كبيرة، فيما كانت العاصمة لندن السبب الرئيسي في تصدر بريطانيا المؤشر باعتبارها أكثر مدينة تمت زيارتها في العالم.

لكن مفاوضات بريكست كانت سببا رئيسا في فقدان بريطانيا صدارة التصنيف في عام 2016، والتي ذهبت إلى الولايات المتحدة بسبب وجود أكثر من مليوني طالب أجنبي في جامعاتها، و90 ألف باحث أجنبي في مؤسساتها، مع قدرتها على تصدير 66 % من الأفلام والبرامج التلفزيونية في العالم، وامتلاكها نحو 23% من القنوات الفضائية العالمية، بالإضافة الى عناصر كثيرة بالطبع للقوة الناعمة، فيما ذهبت صدارة التصنيف في عام 2017 إلى فرنسا، قبل أن تعود مرة أخرى إلى بريطانيا في نسخة عام 2018 ثم عادت فرنسا واحتلت صدارة المؤشر في نسخته الأخيرة عام 2019.

لكن هل يعني ما سبق أننا نعيش حقبة أفول القوة الناعمة للدول العربية، وأنها فقدت فرصتها في استعادة تأثيرها ودورها عبر مصادر قوتها الناعمة؟ بالتأكيد ستكون الإجابة بالنفي، فإذا كان تصدير الأفكار الملهمة أحد مصادر القوة الناعمة، فإن الدارس لتاريخ بعض الدول العربية يعلم جيدا أنها، حتى في لحظات ضعفها، كانت منبعا أو تربة خصبة للأفكار الكبرى الملهمة التي صاغت الوعي العربي خلال القرن العشرين وحتى وقتنا الحاضر، بدءا من فكرة التنوير التي عرفتها مصر وصدرتها إلى محيطها العربي في النصف الأول من القرن العشرين، مرورا بفكرة القومية العربية التي ألهمت مصر بها كل جوارها، مرورا بفكرة السلام مع إسرائيل التي أصبحت مقبولة عربيا الآن بعد أن كانت مرفوضة وقتها، وفي هذا دلالة على أن بعض الدول العربية لا تزال تملك ما يكفي من أسباب الإلهام والتأثير، ولا تزال تملك مخزونا هائلا وقدرات كامنة في مجال القوة الناعمة، وما علينا إلا بعثه وإثبات القدرة على إدارته واستخدامه، ما علينا سوى إعادة الإضاءة على مراكز قوتنا ونفوذنا، ولأن المشكلة لم تكن في امتلاك مقومات القوة الناعمة بقدر ما كانت  في إدارتها واستخدامها بشجاعة وحصافة ورشد ، لذا فإن الدول العربية في أمس الحاجة  لبلورة رؤية واستراتيجية لتعظيم قدراتها على استخدام هذه القوة لخدمة مصالحها القومية، وهنا لا بد من الالتفات إلى أمرين مهمين:

أولا: لا بد لأي محاولة جادة لإعادة إطلاق القدرات الناعمة العربية الانطلاق من حقيقة أن قوة الدولة الناعمة ليست فقط انعكاساً لما تملكه الدولة من أدوات ثقافية وفنية وإعلامية كما هو التصور الشائع لدى قطاعات معتبرة في كثير من البلدان العربية عند حديثها عن الموضوع، ولكنها انعكاس للقوة الشاملة للدولة بأبعادها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وأن ترتيب الدولة في مؤشرات عالمية مهمة، مثل الحكم الرشيد، وحكم القانون، والتنافسية الاقتصادية، وسهولة أداء الأعمال، ومؤشرات الابتكار والشفافية والحوكمة والتنمية المستدامة يسهم بشكل أساسي في تحديد مكانتها كقوة ناعمة، والنظر إليها من دول وشعوب العالم الأخرى كنموذج له جاذبيته للآخرين، وبالتالي إذا أرادت أي دولة عربية أن تحظى بموقعها في خريطة الدول الأكثر امتلاكا لعناصر القوة الناعمة، عليها أن تدرك أن الأمر يتجاوز إعادة إحياء الثقافة والفنون، وأن تدرك جيدا أن الاقتصاد والحرية هما جناحا ازدهار القوة الناعمة. فمهما يكن عدد من نملكه من أدباء وشعراء وفنانين، ومهما بلغ عدد مسارحنا، ومهما وصل إليه حجم إنتاجنا الدرامي والسينمائي،، حتى لو عاد بمستوى قوة حقبة الخمسينيات والستينيات التي ما زال البعض يتباكى عليها ، فإنه يظل بلا قيمة تذكر، إن لم يعمل في سياق من  الممارسة السياسية الإيجابية والمسؤولة، وفي ظل اقتصاد تنافسي قادر على توفير فرص للعيش الكريم، وفي ظل نظام تعليمي ذي جودة عالمية تتوافر فيه مقومات التنافسية والقيم الإيجابية ويكون جاذبا للطلاب الوافدين، وبالتالي فإن أي جهود لإطلاق قدرات العرب الناعمة يجب ألا تغيب عنها النظرة الشاملة لمفهوم القوة الناعمة بأبعادها السياسية والاقتصادية والتعليمية والتكنولوجية والثقافية.

ثانيا: لابد من توافر رغبة سياسية وإرادة مجتمعية لاستغلال مصادر القوة الناعمة وتحويلها إلى نفوذ. فهناك فارق بين أن تمتلك عناصر للقوة الناعمة وأن توظف هذه العناصر لخدمة ما تسعى إليه من دور وتأثير في محيطك وخارج حدودك.

فقد تملك كل عناصر ومقومات القوة الناعمة لكنك قد تعجز عن توظيفها، والعكس صحيح... فقد تمتلك قدرا يسيرا منها، لكنك يمكن أن تضاعف تأثيرها لتعوض غياب بعضها، والأمر هنا رهن توافر إرادة سياسية راغبة في تحويل كل مقوم من مقومات القوة الناعمة، إلى فرصة، وهنا لا بد من الحديث عن ضرورة توافر الوعى السياسي بأهمية القوة الناعمة لدى كل الأطراف الفاعلة في المجتمع، وأهمية توفير الإطار السياسي والتشريعي الذى يمكنها من توظيف مقوماتها، وهنا فإن إرادة سياسية ودعم مجتمعي هو الذي سيأهل بعض الدول العربية، لدخول قائمة أعلى 30 دولة على مؤشر القوى الناعمة، خاصة أن «مؤشر القوى الناعمة 30» يعتبر مصر والامارات من الدول التي تمتلك مؤهلات قد تمكنها من دخوله ، لذا يختارهما القائمون عليه من بين ثلاث دول فقط في الشرق الأوسط لإجراء الاستطلاع المتعلق بالمؤشرات غير الموضوعية.