رغم أن السياسات تهندس بداهة في بلد ديمقراطي عريق بحجم قارة مثل الولايات المتحدة الأميركية بشكل مؤسساتي مؤطر وإن بات علينا استثناء ولاية دونالد ترامب الرئاسية من هذه القاعدة الراسخة إلا أنه ثمة دوما ولا ريب دور ما ولو نسبيا للرؤساء خاصة وحتى لبقية المسؤولين الذين يتولون مواقع القرار والسلطة ودفة الأمور في تحديد القرارات والمواقف ووضع السياسات ورسمها.

وهنا فإن تعيين الدبلوماسي والمبعوث الأميركي الخاص للتحالف الدولي ضد داعش سابقا بريت ماكفورك في مكتب الأمن القومي مسؤولاً عن الشرق الأوسط وشمال ‘فريقيا يشكل علامة مهمة على أن سياسات الإدارة الجديدة وتوجهاتها أقله فيما يتعلق بملفات منطقتنا وخاصة الملف السوري والكردي منه تحديدا ستكون مشابهة لزمن ما قبل ترامب لجهة الالتزام بدعم وحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية ودعم الكرد في سوريا بصفة عامة.

على عكس عهد ترامب الذي كاد يدمر العلاقة الأميركية - الكردية عبر إعطائه الضوء الأخضر لتركيا لاجتياح المناطق الكردية شمال سوريا عبر غزو “نبع السلام” أواخر  2019 الأمر الذي استقال على إثره بريت ماكغورك من منصبه احتجاجا على الغدر بالكرد من قبل ترامب هو الذي يتمتع بعلاقات واسعة معهم في العراق وسوريا بحكم منصبه والذي كان يحظى بثقة وتقدير مختلف القيادات الكردية السياسية والعسكرية على طرفي الحدود العراقية - السورية وعلى امتداد جبهات الحرب ضد داعش الممتدة من كركوك إلى كوباني والتي ليس خافيا أن القوات الكردية كانت رأس حربتها وعمودها الفقري.

وكلنا يتذكر كيف أن ذلك الحدث أصبح حديث الساعة في واشنطن لأسابيع بل وأشهر وتحول لعلامة فارقة عن لا أخلاقية موقف الإدارة إزاء حليف قدم الدم مدرارا جنبا إلى جنب الجيش الأميركي في جبهات الحرب على الإرهاب وخاصة على تنظيم داعش ولا نبالغ عند القول إن تلك الطعنة من ترامب كانت أحد مسببات هزيمته الانتخابية المدوية.

حيث وعلى حين غرة تم الانسحاب الأميركي بعد محادثة هاتفية بين ترامب وأردوغان ما أفسح الطريق أمام الغزو التركي للمنطقة الواسعة من رأس العين إلى تل أبيض ولتثور عاصفة انتقادات ضد قرار ترامب الفردي ذاك ممتدة من الدول العربية إلى دول الاتحاد الأوروبي وصولا حتى إلى أركان الإدارة الأميركية نفسها وقادة الجيش الأميركي وجنرالاته وحسبنا الإشارة هنا لاستقالة وزير الدفاع الأميركي آنذاك جيمس ماتيس رفضا لقرار الانسحاب التواطئي مع أنقرة.

فتعيين ماكغورك والحال هذه يحمل رسائل مباشرة لأنقرة بأن عهد التراخي والتغاضي عن التوسعية التركية في المنطقة قد ولى وأن محاولاتها لعب دور إقليمي أكبر من حجمها باتت تزعزع الاستقرار الإقليمي والدولي وأن على تركيا إعادة حساباتها والكف عن الإيغال في سياسة استعداء مختلف دول الإقليم والعالم تحت دعاوى تاريخية باطلة وتوهمات إيديولوجية متهافتة.

وسيكون الكرد إن في سوريا أو في العراق وحتى في تركيا وإيران ولا شك رابحا أكبر من ارهاصات التعاطي الأميركي الجديد مع ملفات المنطقة ما بعد ترامب فمواقف الرئيس السابق من الكرد لم تكن إيجابية أبداً ولعلنا نتذكر جميعا شطحاته الكلامية وكشوفاته "التاريخية" في سياق محاولات تبريره لتورطه في غزو “نبع السلام” كإشارته مثلا إلى أن الكرد لم يقفوا مع الأميركان أثناء الحرب العالمية الثانية! وغير ذلك من تصريحات وتغريدات يومية كان يطلقها لتبرير غدره بالكرد وتحالفه مع أردوغان ضدهم تلك التغريدات التي غدت محط تندر وسائل الإعلام الأميركية وتهكمها قبل غيرها.

يسود بطبيعة الحال ارتياح عام حول العالم من انقضاء حقبة ترامب وتولي السياسي المخضرم والرصين جو بايدن دفة البيت الأبيض بما يقود لإعادة الاعتبار للسياسة في واشنطن ولهيبة الدولة العظمى الأولى في العالم وتكاد تكون الوحيدة بلا منازع والكرد كغيرهم ينتابهم هذا الشعور بالارتياح والاطمئنان والذي ستظهر الأسابيع القليلة المقبلة ما إذا كانت رهاناتهم في محلها هذه المرة.