خلال العام 1990 خسر الرئيس الحالي لنيكاراغوا، دانييل أورتيغا، الانتخابات الرئاسية أمام فيوليتا شامورو، كانا كلاهما آتيين من "الجبهة الساندينية للتحرير الوطني"، التي أطاحت بنظام "سوموزا" نهاية السبعينيات.

لكن الخلاف بينهما ظهر أثناء مفاوضات الخروج من الحرب الأهلية التي دارت بين الجبهة وبين تنظيم "الكونترا" المدعوم أمريكيا، والتي آلت نتائجها العسكرية لفائدة الرئيس أورتيغا، لكنه خسر في الدبلوماسية ما كسبه في الحرب، بقدر ما تمكن مفاوضوه من تحصين مكاسب لم تعطهم إياها موازين قوى الحرب ومعادلاتها، بل إنه لم يتمكن من العودة إلى مربع السلطة إلا مع حلول العام 2006.

لعل هذا الشاهد، وغيره كثير، يبرز بوضوح أن الحرب حتى وإن كانت وسيلة لتحسين مواقع التفاوض، باعتبار أن لا حرب يمكن أن تستمر إلى الأبد، لكونها في النهاية ليست سوى استمرار للسياسة بأشكال أخرى، على حد تعبير المفكر الاستراتيجي الكبير كلاوزفيتش، فإنها لا تعني دائما أن الفائز فيها سيكون حتما هو الفائز لدى ترجمة نتائجها على طاولة المفاوضات، إذ حينئذ تحل الدبلوماسية باعتبارها هي الأخرى قوة لا تقل شأنا عن نظيرتها العسكرية، بل إن حروبها ومناوراتها أشد وطأة أحيانا، وكم من مفاوضات خاضها المنتصرون في الحرب ولم يحصلوا على ما يوازي نجاحاتهم العسكرية، بل إنه يمكن تحقيق المكاسب في عالم الدبلوماسية دون خوض الحروب حتى، فكيف والحال حينما يمتلك طرف أو دولة أو قيادة سياسية زمام المبادرة والإبداع في الحرب والدبلوماسية.

إن هذه المعادلة هي التي تبين بجلاء سر مسلسل النجاحات التي يُراكمها المغرب منذ أن أفتُعل النزاع حول صحرائه عام 1975، بحيث أن البلاد راهنت منذ البداية على خوض جميع الجبهات بنفس القوة، القوة على الصعيد العسكري بامتلاك جيش وطني خارج من رحم حركة تحرر ضد الاستعمار، قادر على تثبيت أهدافه والذود عنها، وكذا الاهتمام أشد الاهتمام بالقوة الدبلوماسية المنبنية على الثقافة والمعرفة، سواء فيما يتعلق بدقائق التاريخ الوطني وحججه، أو بقواعد القانون الدولي ونوازله، إلى الحد الذي أصبحت معه للمغرب فعلا قوات دبلوماسية مثقفة، تقف خلفها مدرسة شامخة أسسها الملك الراحل الحسن الثاني، منذ أن قدم قراءته التاريخية في الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية عام 1975، الذي يحمل لمسات القاضي اللبناني فؤاد عمون، لاسيما والأمر اقتضى حينئذ أن تتعامل المحكمة مع وثائق البيعة بين قبائل الصحراء والسلاطين والملوك.

لقد انطلق الراحل الحسن الثاني، خلال الخطاب الذي أعلن فيه عن إطلاق حدث المسيرة الخضراء التاريخي، من الربط بين فكرة البيعة كتعاقد والتزام منشئ للسيادة وفق مقتضيات القانون العام الإسلامي، وبين ما رأته المحكمة من كون سيادة المغرب على صحرائه واقع سياسي تاريخي وأيضا مقتضى قانوني دولي، باعتبار أن نمط الحكم الذي ساد المغرب لقرون لم يكن مركزيا وإنما كان حكما جهويا لا مركزيا، وهو ما يُعرف في التاريخ المغربي بسلطات "الخليفة السلطاني"، كما كان قد أسهب في شرحه أيضا العاهل الراحل في خطاب مهم في العام 1992، وهو بذلك يكون قد وضع حجر الأساس لمدرسة المغرب في القانون الدولي، وهي المدرسة التي جعلت المغرب يحظى بفقهاء كبار في القانون الدولي مثل القاضي في محكمة العدل الدولية محمد بنونة، وهي التي بفضلها يمتلك المغرب دبلوماسيين محنكين من حجم محمد بوستة ومحمد بنعيسى والطيب الفاسي الفهري والسفير عمر هلال، ووزير الخارجية الحالي ناصر بوريطة.

وطبعا لم يكن لهذه القوات الدبلوماسية المثقفة أن تستمر في تطوير أدائها وإبداعاتها لولا أن العاهل المغربي محمد السادس قد وفَّر لها الرعاية، وقادها بكل ذكاء وثبات، ماشيا على خطى الملك الراحل، مهندس دبلوماسية التحرر من الاستعمار والدفاع عن وحدة تراب البلد، لتتلاحق الانتصارات الدبلوماسية، وصولا إلى ابتكار آلية استقطاب الدول لكي تؤسس قنصلياتها في مدن الصحراء المغربية، بما يعني اعترافا ضمنيا، حائزا للقوة ضمن قواعد القانون الدولي، بقدر ما يؤسس لذلك اتفاق فيينا للعمل القنصلي والدبلوماسي، باعتبار أن الدول الموفِدة لبعثاتها لها الحق أن تفتح تمثيلياتها في أي مكان من تراب الدول المستضيفة، وهو ما يجعل الاعتراف الدولي الأحادي طريقا نحو اعتراف دولي جماعي بمغربية الصحراء.

لقد مارس المغرب عبر دبلوماسيته هذه الممارسة القانونية معتمدا على آلية الأطر الثنائية للعلاقات، بدل الأطر المتعددة الأطراف، وهو كشْف سبق أن تأكدت أهميته مع تجربة المغرب في الفضاء الإفريقي خلال السنوات الماضية،  وها هو قد أسفر عن تأسيس قنصلية أمريكية في مدينة الداخلة المغربية، واعتراف أمريكي مباشر وعلني بالسيادة المغربية على الصحراء، وتعزيز لمقترح الحكم الذاتي كحل فعلي ليس للنزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، وإنما كممارسة قانونية دولية من شأنها أن تضع حدا لكل المشاكل المثيلة الموروثة عن حقبة الاستعمار، والتي تنسف مبدأ "الحدود الموروثة عن الاستعمار"، وتقوي منطق الديمقراطية المحلية، وأسبقية التنمية على الجيوبوليتيك، ومعاكسة دعوات التجزئة والتقسيم ذات الأصل الاستعماري الطارئ، بقيم الاندماج والتوحيد والدمقرطة وتقوية الروابط التاريخية الأصيلة للشعوب.