هل يَسَعنا أن نشهد قريباً، أو في زمنٍ منظور، على شكلٍ مّا من تبديد حالِ العداء بين الغرب والإسلام (والعرب استطراداً)، أو من انفراجةٍ لحال التأزّم في العلاقة بينهما، على النّحو الذي تستقيم فيه تلك العلاقة وتنجلي عنها أسباب الاضطراب؟

يحتمل السّؤال هذا إجابتيْن مختلفتيْن ومتقابلتيْن؛ واحدة بالسّلب وأخرى بالإيجاب، وتتقرّر كلٌّ منهما بطريقة حَمْل السّؤال أعلاه على هذا المعنى أو ذاك لعبارتيْ العداء والتأزّم. وهكذا إنْ أُخِذ معنى العبارتين على أساسهما الدّينيّ، انطلاقاً من فرضيّةِ استمراريّة تأثير المواريث التّاريخيّة للعلاقات المسيحيّة-الإسلاميّة في صلات العالَميْن ببعضهما في الحاضر، قد يترجّح الجوابُ عن السّؤال بالسّلب؛ وإنْ أُخِذ معناهُما على أساسٍ سياسيّ، ترجَّح - حينها- الجوابُ عن السّؤال بالإيجاب، انطلاقاً من القاعدة التي تقول إنّ مبْنى السّياسة على المصالح، وإنّ هذه ممّا يَقْبَل التّفاهُمَ حوله بين المتنازعين ولو هُم أمعنوا في النّزاع وتباعدت بينهم المواقف.

قد يُقال إنّ بعض العداء الموروث عن حقبة الحروب بين أتباع الدّينين، في الأزمنة قبل الحديثة، وعن حقبة المساجلات اللاّهوتيّة، نَصْراً لعقائد وتنفيذاً لأخرى، قد تبدّد في الحقبة المعاصرة، وكان من محطّات تبديده ما وقَع من مراجعةٍ لاهوتيّة للموقف المسيحيّ من الإسلام، في المجْمع الثّاني للفاتيكان في النّصف الثّاني من الستينيّات من القرن الماضي؛ ممّا فتح الطّريق أمام محاولات متعاقبة للحوار بين أتباع الأديان منذ ذلك الحين، وأمام تعايُشٍ بين معتنقيها داخل المجتمع الواحد. وهذا صحيح؛ ولكن، هل قاد ذلك إلى اعترافٍ متبادل أم إلى مجرّد التّسامح؟ والأهمّ من ذلك: هل توقَّفتِ الحروب بين العالميْن؟ إنّ مجرّد استمرار الصّدامات العسكريّة بينهما، واستمرار حالة الفجوة بين وعي النّخب الدّينيّة المتنوّرة، من هذا الجانب وذاك، ووعي جمهور المؤمنين السّادر في ثقافة الذّاكرة وتنميطاتها، كافيان لتجديد الشّعور الجمْعيّ بالتّجافيّ بين المجموعتين الاعتقاديّتين، ولاستدعاء مخزون المخاوف والتّمثُّلات المتبادلة عند أوّل فرصةٍ يقع فيها الصّدام العسكريّ بين العالميْن، أو تندلع فيها أزمةٌ حادّة قد يشعلها عودُ كبريتٍ صغير (= الرسوم الكاريكاتوريّة مثلاً)!

حين نضع مسألة العداء أو التّأزّم في نطاقٍ سياسيّ صرف، ومجرّد من أيّ مؤثّرات دينيّة أو تخييليّة، نضعه - حُكْماً- في النّطاق الذي يَقْبَل معالجتَه وتجاوُزَ أسبابه؛ لأنّ النّطاق هذا مصلحيٌّ لا عَقديّ، والمصالح- وإنْ تعارضَت- تَقْبَل التّسويّات والتّنازلات المتبادَلة؛ الأمر الذي لا يجوز في ميدان العقائد. والحقُّ أنّه إذا كان للحوار والتّفاهم أن يكون مُجْدياً ومُنْتجاً، فهو يكون كذلك في السّياسة وشؤونها وخلافاتها، أمّا ما يُقال ويُجرَّب في مجال «الحوار بين الأديان» فممكناتُه محدودة- قطعاً- ما خلا في الحالة التي يُرَادُ به البحث عن مخارجَ سياسيّة لاختلافات غير سياسيّة. ولكنّ الحوار السّياسيّ يقتضي واحداً من أمْرين أو مبدأيْن: تكافؤاً في القوى بين طرفيْ - أو أطراف- الحوار بحيث يتولّد منه تكافؤ في المصالح المتولّدة مِنْ تَوافُقٍ عليها بين المتحاورين؛ أو اقتناعاً من الشّريك الأقوى في الحوار بمبدأ توازُن المصالح على النّحو الذي يحْفظ مصالح الأضعف ولا يُزري بها تحت وطأة الشّعور بأنّ أرجحيّته في توازن القوى يُبيح له استثمار تفوّقه لتحصيل ما يجاوِز مصلحته إلى النّيل من مصلحة غيره.

والحقّ أنّ بين المبدأيْن فرقاً في الطبيعة، وأنّهما قلّما يجتمعان في كائنٍ سياسيّ، وإن كان من مقتضيات استقامة كيان السّياسة- كفاعليّة مدنيّة إنسانيّةٍ متحضَّرة- أن ينطويَ عليهما ويقوم عليهما معاً. المبدأ الأوّل مبدأ سياسيّ موضوعيّ يُترجم حال التّوازن. وعليه، حين يدور الحوار بين قوًى متوازنةِ القوّة تكون عائداتُه أنفع لهما معاً، ولا يُنْتَقَص فيه من حقٍّ أيٍّ منهما؛ إذِ الحقُّ هذا يكون محْمِيّاً - حينها- بالقوّة والتّوازن. أمّا المبدأ الثاني فهو أخلاقيّ قبل أن يكون سياسيّاً، ومبْناه على أنّ الأقْوى في الحوار لا يتوسّل قوّة الحقّ مبدأً يسوِّغ تمكين صاحب الحقّ من حقّه، وإنْ لم يكن موقعُه في توازن القوى المختلّ يسمح له بتحصيله. والواقع أنّ تصدُّر هذا المبدأ الثّاني وحاكميَّتَه لمنطق السّياسة لَأمْرٌ متعذِّر إنْ لم نقُل ممتنعاً، على الرغم من أنّ القانون الدوليّ يَمْتح شرعيّتَه - نظريّاً- منه، فيما المبدأ الأوّل فارضٌ أحكامَه ومفاعيله، بقوّة الأمر الواقع، على السّياسة والحوار وعلى العلاقات الدّوليّة.

من النّافل القول إنّ حواراً بين العالميْن (الغربيّ والعربيّ الإسلاميّ) لن يُحْرِزَ كبيرَ نجاحٍ - وهو يتناول مسائل الخلاف - لسببٍ معلوم هو فِقدان أحدهما (عالم العرب والمسلمين) القوّة الكافيّة لتحقيق التّوازن. لذلك لن يكون ما يُسْفِر عنه مُرْضيّاً للأخيرين، وسيجدون في ما حِيف فيه من حقوقهم سبباً جديداً للشّعور بالغبن عندهم: دُولاً ومجتمعات. لذلك، لا مهْرب من أن يتحلّى العالم الغربيّ ببعضٍ من القيم التي تؤهّله لأن يبرّر مشروعيّة أفعاله تجاه غيره؛ لا بدّ له ممن أن يلتزم مبدأ توازُن المصالح بدلاً من مبدأ توازُن القوى، كما طالبه بذلك - يوما- ميخائيل غورباتشوف حين دبّ الوهن في النّظام السّوفييتيّ، كي يشعر شركاءَه (العرب والمسلمون) في الحوار بأنّه يخوض معهم حواراً فعلاً لا جلسات إملاء. في الأحوال جميعاً، ليس مطلوباً من الغرب أن يتحوّل إلى كائنٍ أخلاقيّ متعال كي يستدخل هذا المبدأ في منظومته؛ يكفيه أن يلتزم أحكام القانون الدوليّ حتّى يقارِب مسألة المصلحة بقدرٍ من التّوازن.

إذا وُضع التأزُّم في نطاقه السّياسيّ، وخيضَ حوارٌ في شأن المسائل الخِلافيّة بعقل المصالح المتوازنة، سيتبدّد- حينها- الكثير من أسباب الاضطراب في العلاقة، وقد تستقيم هذه على نحوٍ أفضل وإنْ لم تتطابقِ المصالح بالضّرورة.