كلّما أمْكَن تَحْلِيةُ النّفس بقيمة الاعتراف، أمْكَن تَخْلِيَتُها من مرض الأنانيّة البغيض.

الاعترافُ قيمة من القيم الإنسانيّة الرّفيعة والنّبيلة التي يشْرُف مَقامُ مَن يتحلّى بها من الأفراد والمجتمعات، ومَن يتشبّع بها إلى الحدّ الذي تتحوَّل فيه إلى خُلُقٍ صميم وطبيعةٍ ثانيّة.

في المقابل، تَهْبِط الأنانيّة بأقدار مَن يُصابون بها – أفرادًا ومجتمعات – وتُجرٍّدهم من كثيرٍ ممّا من شأنه أن يرسّخ الإنسانيَّ فيهم، ويخْـلُق في ذواتهم الدّوافع العميقة للإبداع؛ ذلك أنّ الأنانيّة والنّرجسيّة انْسجانٌ في الذات، وتعظيمٌ مَرَضيّ لها و، بالتالي، كابحٌ أمام اكتشافها آفاقَها الإنسانيّة الرّحبة الواقعة خارجها.

كلُّ اعترافٍ هو، حكمًا، اعترافٌ بآخر؛ خروجٌ من منطق مركزيّة الأنا وقيودِها وتحرُّرٌ من تلك المركزيّة والقيود المضروبة على الأنا.

ويحتاج الاعتراف ذاك إلى رياضةٍ دائبةٍ عليه تحاصِر في النّفس ما يَكْبَح المنزِع إليه. والرّياضة الذّاتيّة، التي نعني، سيرورةٌ متّصلةُ الحلقات من الأفعال الدّائرة على هدف محاصرة النّرجسيِّ والأنانيّ في الأنا، وهي الرّياضة التي ينتهي مطافُها الأخير بولادة ثقافةٍ جديدة هي ثقافة الاعتراف، وصيرورتها سلوكًا تلقائيًّا يأتيه المرءُ من غير إرغامٍ خارجيّ، بل بفعل دافعٍ داخليّ محض، أي ما سمّيناه بتنزُّل قيمة الاعتراف من الإنسان بمنزلة طبيعةٍ ثانيةٍ فيه.

يساورُ الكائن الأنانيَّ - فردًا كان أو مجتمعًا – شعورٌ بالإشعاع والانتهاء و، بالتّالي، بالغَناء عن غيره؛ ليس من حاجةٍ بالآخر، عند الأنانيّ والنّرجسيّ، لأنّ الأخير مُسْتَكْفٍ بذاته عن غيره.

في الانتهازيّ، مثلاً، شيءٌ كثيرٌ من الأنانيّة لا شكّ، غير أنّ أنانيّته تقودُه إلى شكلٍ مّا من انتهاز الآخر لإشباع مصلحةٍ له. وهذا ما ينزِع إليه الأنانيُّ النّرجسيّ؛ الذي مبدأ وجوده أناهٌ، والذي يصوِّر له الآخرَ عبئًا ثقيلاً على تلك الأنا، أو يقدّم له الاعتراف به شكلاً من الزّراية بالذّات وحطًا منها. لا تكون الأنا أنًا كاملةً، في وهم الأنانيّ، إلاّ متى انْعدم آخَرُها فلم يكن! إنّ مجرّد الاعتراف مع النّفس بوجود غيرها، بحاجتها إلى غيرِها يودِي بها!

حتّى المجتمعات والثّقافات تُصاب بمثل ما يُصاب به الأفراد من أمراض الأنانيّة والنّرجسيّة، ويَعْرِض لها من أمراضها ما يَعْرض للأفراد من مشكلات وأزْمات. كم من الثّقافات في التّاريخ الإنسانيّ توقّفت حركةُ الإبداع والعطاء فيها لأنّه تملّكها الشّعور بالإشباع والكفاية الذّاتيّة، وبوهْم غَنَائها عن غيرها من الثّقافات؛ الوهم الذي يقترن عندها – في العادَة - بالشُّعور المَرَضي بالتّميُّز والتفوّق واحتقار ما دونها من ثقافات.

والنّتيجة أنّها دفعت ضمنَ تَشَرْنُقها النّرجسيّ على الذّات مزيدًا من التّكلُّس والجمود والانحطاط، أمام ثقافات أخرى تزوّدت من خبرة التّبادل الثّقافيّ، ومن مفعول فضيلة الاعتراف بغيرها فيها. وكم من الأمم والمجتمعات أصابها الكَبْو في مسيرتها التّاريخيّة من وراء الشّعور بالإشباع الذّاتيّ، والانغلاق في نرجسيّة حادّة تحول دون أيّ اغتداء من مساهمات الأمم الأخرى التي غالبًا ما نظرت إليها بما هي دونها مدنيّة وتحضّرًا.

ولقد قام من تاريخ البشريّة فائضٌ من الأدلّة على أنّ مَقْتَل كلّ ثقافةٍ وحضارةٍ وأمّة سقوطُها في نزعةٍ مركزيّة ذاتيّة، بحيث لا ترى نفسَها كما لا ترى العالم من حولها إلاّ من قناة الذات المتمركزة على نفسها.

هذه جميعُها تَبَدِّياتٌ لنزعة الأنانيّة، في الشّعور والتّفكير والتّصرُّف، وتعبيراتٌ ماديّة مُكَبَّرة عنها. وهي بمقدار ما تُشْبِع في النّفس شعورًا مَرَضيًّا، تأتي على الممسوس بها بالنّتائج الفادحة. وما من سبيلٍ إلى التّخلّص من قيودها وكوابحها سوى مقاومتها من الدّاخل، وتشديد انتباه الذات إلى خارجها، والبحث في ذلك الخارج عن مواردَ جديدة لتغذية الأنا (الفرديّة والجماعيّة).

غير أن السّير على محجّة هذه السّبيل لا يكتمل شوطُه إلاّ بتمرينٍ ثقافـيّ ونفسيّ، طويل الأمد، على فكرة الاعتراف؛ الفكرةُ التي من دونها لا نملُك أن نحرِّر عقولنا من أوهامها النّرجسيّة، وذواتنا من أقفاصها الدّاخليّة المغلقة، فنخرج إلى الرّحاب متفاعلين مع غيرنا، منتهلين من خِبْراتهم الثّقافيّة والاجتماعيّة والعلميّة ما به نجدِّد مخزوننا ونمكّن عمراننا الماديّ والمعنويّ من التّأهيل اللاّئق.

قيمة الاعتراف هي، اليوم، القيمة الإنسانيّة التي تُقاس بها نسبةُ العافية والحيويّة في أيّ ثقافة وفي أيّ مجتمعٍ في العالم المعاصر؛ هي مفتاح الخروج من الانغلاق والانكماش وكَسِر أرباق الانحطاط، والسّير في سبيل الإبداع.