رغم مضي سنوات على رحيله، إلا أن نجم كرة القدم البرازيلي مانويل سانتوس الملقب بـ "غارينشا" ما زال حاضرا في ذاكرة العالم بسبب النجاحات التي حققها في كرة القدم رغم إصابته بإعاقة جسدية.
وكان غارينشا، الزميل المخضرم لبيليه الشاب في منتخب البرازيل الذي توج باللقب العالمي الأول عام 1958 في السويد، وفي ظل إصابة بيلية، كان غارينشا النجم المطلق في تشكيلة 1962 التي أبقت اللقب برازيليا.
ورغم التشوهات الخلقية التي ولد بها، التي تعيق الإنسان حتى على المشي، تحدى غارينشا الإعاقة بمراوغة جعلت منه أشهر جناح أيمن في تاريخ كرة القدم، وأبرع مراوغ عرفته الميادين الخضراء حتى الآن، وقيل عنه "إنه بالنسبة لكرة القدم، كبيكاسو للفن".
ولقب اللاعب الراحل بـ"الملاك صاحب الساقين الملتويين"، بسبب التشوه الخلقي المتمثل باعوجاج في الركبتين نحو الخارج واعوجاج أيضا في العمود الفقري، كما أن الحوض كان مائلا بوضوح نحو الشمال.
وكان غارينشا مع التشكيلة التي خاضت نهائيات 1966 أيضا، وهو أسطورة في نادي بوتافوغو والملعب الوطني الذي تتواجه فيه البرازيل مع الكاميرون الاثنين المقبل في الجولة الثالثة الأخيرة لمنافسات المجموعة الأولى من مونديال 2014، يحمل اسمه وليس اسم بيليه.
وفي ما كان بيليه في قمة عطائه خلال السبعينيات، فارق غارينشا الحياة عام 1983 عن 49 عاما بعد إدمانه على الكحول ومعاناته المادية.
وقالت حفيدة غارينشا، ألكسندرا دوس سانتوس: "في البرازيل، الناس الذين كانوا مهمين في السابق سرعان ما يصبحون طي النسيان".
وأضافت: "بيليه هو الملك لكن ليس من الضروري أن يكون هناك واحد فقط، بالإمكان أن يكون هناك اثنان، الأموال لم تكن تعني لجدي كثيرا، كان رجل الشعب".
يذكر أن غارينشا ولد ودفن في بلدته باو غراندي الفقيرة، وكتب على شاهد ضريحه في مقبرة رايز دا سيرا: "بهجة شعب".
ويقف المنزل الذي عاش فيه غارينشا كفتى هناك متمايزا عن محيطه، إذ طليت جدرانه باللون الأصفر، وفي داخله حانة صغيرة اسمها "غارينشينيا" تيمنا باللاعب الأسطورة.
يشار إلى أن اللاعب ترك خلفه 14 ولدا من علاقات مختلفة، دون أي سند مادي، ما يجعل المرء يتفهم عدم اهتمام أبناء البلدة بأي حدث أو شيء يقام بهدف تكريمه، والحانة المقامة داخل منزله ليست تكريما له من قبل من عاش حوله، بل تقدمة من برنامج تلفزيوني واقعي.
وقالت ألكساندرا: "حصل غارينشا على المنزل عام 1958 كتقدمة من المعمل المحلي كجائزة له نتيجة إحرازه كأس العالم لكنهم عادوا لاحقا للمطالبة به قبل أن نتوصل في النهاية إلى اتفاق"، مضيفة "والبرنامج التلفزيوني دفع ثمن الحانة وما فيها، لكن ذلك ليس كافيا، فأنا أكافح من أجل تدبر أموري".
وأشارت إلى أنها مستعدة للتخلي عن الحانة مقابل بمبلغ 292 ألف دولار، وفق ما ذكرت وكالة فرانس برس.
أما روزانجيلا، فلم تكن تعلم أن غارينشا هو والدها، إلا بعد وفاته.
وقالت: "عندما كنت صغيرة، الناس قالوا بأني أشبه غارينشا، كنت متأكدة نوعا ما بأنه والدي لكننا قمنا بفحص الحمض النووي بعد 15 عاما من وفاته، والآن أصبحت متأكدة".
غارينشا الذي ولد في 28 أكتوبر 1933، هو سابع اخوتة الاثنين والعشرين، من أب مدمن على الكحول.
كان غارينشا الطفل الفقير ذو الجسم النحيف المشوه، وإزاء هذا الوضع كان اهله يدعون الله ليل نهار حتى يتمكن ابنهم من الوقوف على قدميه وتطلب الأمر تدخل الجراحين، حتى تمكن على الاقل من المشي ولو بطريقة غير سليمة.
لكن الطفل مانويل خلق المعجزة، وبعد أن كان أهله يحلمون برؤيته يمشي على قدميه، أصبح يداعب الكرة ببراعة الكبار.
وفي أحد أيام عام 1953، وهو في الـ 16 من عمره، وفي مباراة تدريبية لفريق بوتافوغو العريق، كان هناك نقص في عدد اللاعبين، فاقترح مدربه أن يشارك في المباراة التدريبية لسد الفراغ.
إلا أن النجم الصاعد لم يصدق أن الفرصة أتيحت له، وعوض أن يسد الفراغ ويكمل عدد اللاعبين، راح في جهته اليمنى المفضلة يبدع، وكان أول ضحاياه، المدافع المشهور آنذاك الدولي نيلتون سانتوس الذي كان أفضل ظهير أيسر في البرازيل، إلا أن الشاب اليانع المشوه تمكن من قهر سانتوس، على مرتين بمرواغتين لم يفهم فيهما سانتوس شيئا، فاستسلم تماما أمام عبقرية منافسه.
وتوجه سانتوس بعد أن واجه هذا الفنان وعرف إمكانياته الفنية، مباشرة إلى إدارة ناديه، وصاح قائلا: "لا يجب إهدار هذه الفرصة، علينا ضم هذا اللاعب حالا إلى الفريق"، وهو ما حصل بالفعل، وبقي غارينشا لمدة 13 عاما في صفوف هذا الفريق العريق.
ومنذ هذا التاريخ بدا غارينشا مسيرة رائعة، والغريب أنه اعتمد دائما على مراوغة واحدة حيث رواغ على مرحلتين، الأولى بدون كرة يقوم فيها بتمويه جسدي، وقدمه اليمنى، التي يموه بها، ثم يقفز على اليسرى، كي يعطي الانطباع أنه يريد الانطلاق، وعند ارتباك المدافع الذي لا يمكنه فهم نية غارينشا، ينفلت الأخير بسهولة على الجناح، معتمدا على سرعة انطلاقه قبل أن يمرر كرات العرضية باتجاه زملائه.
بعد عطائه المميز في صفوف نادي بوتافوغو، فتحت له ابواب المنتخب الوطني مصراعيها، وكان احد اللاعبين الذين مثلوا البرازيل في نهائيات كاس العالم عام 1958.
ولعب أول مباراة له كأساسي أمام الاتحاد السوفيتي ثم في الدور نصف النهائي أمام فرنسا حيث مرر كرتين حاسمتين إلى فافا الذي ترجمهما إلى هدفين (5-2).
وكذلك كانت الحال في المباراة النهائية امام السويد صاحبة الأرض التي انتهت بنفس النتيجة، واقر بعدها اللاعب السويدي نيلز ليدهولم بدور غارينشا فيها، حيث قال "خسرنا المباراة النهائية بسببه (غارينشا)، لقد صنع هدفين خارقين".
وبذلك ساهم ملك المراوغات بفعالية في تتويج منتخب بلاده بالتاج العالمي للمرة الاولى.
وفي مونديال تشيلي 1962، انفجرت مواهب غارينشا واظهر فعليا فنياته العالية.
البداية في هذا المونديال كانت صعبة امام المكسيك، فبعد انتهاء الشوط الاول بالتعادل السلبي، انتظر البرازيليون الجوهرة السوداء بيليه ليقوم بمجهودين فرديين رائعين، سجل منهما هدفي الفوز.
غير أن بيليه لم يتمكن من مواصلة المنافسة بعد تعرضه لاصابة خطيرة في بداية مباراة منتخب بلاده امام تشيكوسلوفاكيا التي انتهت بالتعادل السلبي.
وفي المباراة الثالثة أمام إسبانيا، تلقى مرمى البرازيل هدفا أول مباغتا، الزم غارينشا القيام باللازم لانقاذ فريقه من الاقصاء، ففعلها ومرر كرتين على طبق من ذهب الى اماريلدو الذي ترجمهما الى هدفين أهلا المنتخب الذهبي الى الدور ربع النهائي.
بعد هذه المباراة فهم غارينشا، وبعد غياب بيليه، انه اذا اراد ان يقود اللعب ويسجل اهدافا يجب عليه الدخول اكثر نحو وسط الميدان وعدم البقاء على اقصى الجهة اليمنى التي يفضلها: "اكتشفت ان المرمى يظهر اكبر من وسط الميدان منه على الجناح".
في مباراة ربع النهائي وضع الإنجليز ثلاثة مدافعين لحراسة غارينشا الا انهم لم يفلحوا في ايقافه حيث تمكن من تسجيل هدفين من تسديدتين صاروخيتين، وفازت البرازيل (3-1).
وفي مباراة نصف النهائي لقي البلد المضيف تشيلي نفس مصير سابقيه من المنتخبات، حيث استسلم لقانون غارينشا ورفاقه (2-4) وتمكن اللاعب الاسطوري من تسجيل هدفين.
وفي المباراة النهائية واجهت البرازيل منتخب تشيكوسلوفاكيا، ولعب غارينشا المباراة وهو مصاب "بالانفلونزا"، الا انه اربك المدافعين كثيرا وساهم في فوز منتخب بلاده (3-1) ونيلها الكأس للمرة الثانية على التوالي.
بعد مونديال تشيلي، بدأت لعنة الاصابات تطارد غارينشا، خاصة وان جسمه المريض وبالاخص ساقيه كانوا لا يتحملون الضرب الذي كان يتلقاه بصفة مستمرة، ومن هنا بدأ نجمه في الافول.
غارينشا الذي كان يملك عقل طفل لا يتجاوز الثامنة من العمر حسب الاطباء النفسانيين، بدأ يكثر من الخروج الى الملاهي الليلية، وغاب عن التدريبات ثم ادمن الكحول وانفصل عن زوجته واولاده، وارتمى في حضن عشيقته المغنية الزا سواريز معلنا بذلك بداية نهاية نجوميته.
حاول غارينشا العودة الى اجواء المنافسة في مونديال انكلترا 1966، الا ان البرازيل خرجت من الدور ربع النهائي بانهزامها امام بلغاريا (1-3)، فكانت اول هزيمة لغارينشا في صفوف المنتخب خلال 41 مشاركة في صفوفه، وكانت كذلك اخر ظهور له بالزي الذهبي.
وتواصل بعد ذلك مسلسل تدهوره ثم اصيب بمرض صدري وخضع لعملية جراحية في الركبة، لينتهي الطفل العملاق في براثين الكحول والبؤس، قبل ان يغادر هذا العالم نهائيا عام 1983 في احد مستشفيات ريو دي جانيرو.