فكرة لا تبدو مستغربة بالنسبة لكثير من الباحثين في شؤون الرياضة، ومن هؤلاء الباحث محمد سالم منصور الذي أعد رسالة دكتوراه في جامعة السوربون تحمل عنوان "الأندية فكرة سياسية إطارها رياضي وعنوانها وطني". في تلك الرسالة، ناقش منصور أسباب التفاف الجماهير حول الأندية الشعبية في مصر، مثل الأهلي والزمالك، ليُبين إلى أي مدى اختصر البعض الوطن في رمز النادي الرياضي والفريق الكروي.
ويقينـًا فإن ظاهرة اختصار الوطن في الفريق تتجلى في دول العالم الثالث بشكل أكبر، لأسباب تتعلق باللعبة، ولأسباب تتعلق بجذور تلك الدول، ما يسمح بظهور التعصب، حتى أصبحت ردود الفعل للانتصارات والانكسارات عصبية ومَرضية .
وفي حقيقة الأمر، فإن التعصب الكروي وُلد بولادة كرة القدم.
فقد كانت كرة القدم عند الإنجليز في بداياتها عنوانـًا للسخط والتعصب، إذ تفشت آنذاك ظاهرة مهاجمة اللاعبين ونشر الرعب في قلوب المناصرين للفرق المعادية، ما دفع الملك إدوارد الثاني (1284-1327) إلى توجيه عمدة لندن نيكولاس دي فارندون إلى إصدار قانون بحظر كرة القدم في عام 1314 اعتقادًا منه بأن الصخب والجلبة في المدينة، عبر الضوضاء الناجمة عن مباريات كرة القدم في الملاعب، قد يؤديان إلى إثارة الكثير من الشرور . وتعرضت اللعبة للمنع مرّات عدة خصوصـًا في بلاط إدوارد الأول (1239- 1307) الذي اعتبرها مؤذية لأنها طالما انتهت بجرحى من الطرفين، ثم تدخلت الكنيسة في المسألة وقررت عدم وجود أثر للخطيئة أو الشر في تلك اللعبة فرفع البلاط خطره عنها.
وإذا كانت كرة القدم الحديثة قد ولِدَت في 26 أكتوبر عام 1863 في إنجلترا عندما وضع ترينغ الأستاذ في جامعة كامبريدج أول قانون للعبة وكان من 10 مواد، فإن تطور القوانين المنظمة لم يقف حائلاً دون استمرار التعصب الكروي، وسط انتشار كبير للعبة وشعبيتها .
ولعل أولى حالات العنف والتعصب المدونة في تاريخ كرة القدم الحديثة مسجلة في عام 1885، وذلك بعد أن فاز فريق "بريستون نورث إند" الإنجليزي على نظيره فريق "أستون فيلا" بخماسية نظيفة في لقاء ودي أسفر عن تعرض جماهير الفريقين لبعضهم البعض بالركل ورشق الحجارة والضرب بالعصي. ووصفت التقارير الصحفية في ذلك الوقت الجمهور بـ"عويل الشرسين". وجسدت هذه الواقعة بداية ظاهرة إنجليزية عرفت باسم "الهوليغانز" أو "الهوليغانية" Hooliganism التي تمثل رمزًا للتعصب الكروي لما يقوم به هؤلاء من تخريب وشغب واعتداءات على مشجعي الفريق المنافس والممتلكات الخاصة والعامة .
وبسبب الهوليغانز، وقعت مأساة استاد هيسيل في العاصمة البلجيكية بروكسل في 29 مايو 1985، أثناء المباراة النهائية لدوري الأبطال في أوروبا، بين "يوفينتوس" الإيطالي و"ليفربول" الإنجليزي. في تلك المباراة، وتحديدًا قبلها بساعة واحدة، قتل 39 مشجعا بينهم 32 من مشجعي "يوفينتوس"، كما أصيب أكثر من 600 آخرين، نتيجة اقتحام جمهور الفريق الإنجليزي حاجزًا يفصل بينهم وبين مشجعي النادي الإيطالي. وكرد فعل، قرر الاتحاد الأوروبي لكرة القدم حظر مشاركة جميع الأندية الإنجليزية إلى أجل غير مسمى (تم رفع الحظر في موسم 1990- 1991، مع استمرار الحظر على ليفربول لسنة إضافية) .
هذه الكارثة وصِفَت لاحقـًا بأنها "أسوأ لحظة في تاريخ مسابقات الاتحاد الأوروبي لكرة القدم" .
وفي 15 أبريل 1989، قضى 96 شخصـًا من مشجعي فريق ليفربول في "مأساة هيلزبورو"، تلك التي قادت إلى مراجعات وخلاصات وردت في "تقرير تايلور"، وتشمل إجراء بعض التحسينات والاحتياطات الخاصة بالملعب وفرض المقاعد لجلوس المتفرجين.
ولم تقتصر ظاهرة شغب الملاعب على الإنجليز، فقد اتخذت أسماء وأشكالاً مختلفة في دول أخرى. ومن المسميات التي انتشرت في ملاعب كرة القدم مصطلح "الألتراس" الذي وقع شهادة ميلاده الأولى من البرازيل وتحديدًا في أربعينيات القرن العشرين، حيث بدت أساليب هذه الجماعات في التشجيع ثورة على الطريقة الكلاسيكية التقليدية، إذ تتسم بنوع من الجدية والالتزام في التشجيع.
انتقلت عدوى جماعات الألتراس إلى أوروبا عن طريق بوابة يوغوسلافيا وبالتحديد من كرواتيا الحالية، وكان مشجعو فريق هايدوك سبليت الكرواتي هم من اتبعوا هذا السلوك في مباراة 29 نوفمبر 1950 أمام الغريم التقليدي "رد ستار". ومن المظاهر التي حملها هؤلاء المشجعون النزول إلى أرضية الملعب بعد انتهاء المباراة والخروج إلى الشارع في حالة هستيرية للتعبير عن الفرح بفوز فريقهم.
بدأت ظاهرة الألتراس تأخذ طريقها إلى الملاعب الإيطالية فى أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات في الملاعب، وتشير السجلات إلى أن مجموعة FOSSA DEI LEIONI الخاصة بنادي ميلان هي أول مجموعة ألتراس ظهرت وذلك عام 1968، قبل حلها في 17 نوفمبر 2005. وهناك تقارير تشير إلى أن أول مجموعة من ألتراس إيطالية ظهرت في مدينة تورينو عام 1951، وكانت تعرف باسم FEDELISSIMI GRANATA، وهي حتى الآن تشجع فريق تورينو . أما أول مجموعة أطلق عليها اسم ألتراس فكانت تابعة لسمبدوريا عام 1969، وهو العام الذي شهد ظهور ألتراس إنتر ميلان واسمه INTER BOYS.
غزت الظاهرة الأراضي الفرنسية انطلاقـًا من ثمانينيات القرن العشرين، وأقدم جماعة فرنسية هي مجموعة "كوماندو أوليمبيك مرسيليا" التي تأسست سنة 1984، وجاءت طريقة هذه الجماعات في التشجيع حصرية واستثنائية وأخرجت الملاعب الفرنسية من حالة الجمود .
وثقافة الألتراس تبتعد عادة عن العنف والشغب، إذ يتركز على إنشاء كيان واحد يشجع الفريق بشكل منظم ودائم خلال المباريات، مع تعليق اللافتات الشهيرة بهم. ومما يؤسف له أن عالم الألتراس بدأ يشهد انحرافات وأشكالاً من التعصب على نحو يتسبب أحيانـًا في أحداث عنف وشغب، مثلما حدث في لقاء "ميدلسبروه" الإنجليزي و"ايه. سي. روما" الإيطالي في مارس 2006، حين تعرض ثلاثة من مشجعي الفريق الإنجليزي للطعن بالسكين على يد عناصر "الألتراس" الموالين للفريق الإيطالي .
وفي عالمنا العربي تعد جماعات الألتراس الأقل تنظيمـًا مقارنة بالروابط في الدول الأوروبية وأميركا اللاتينية بسبب حداثة ظهور الألتراس في بعض دول العالم العربي وقلة الإمكانيات، مما يجعلها في طور النشأة بالمقارنة مع مثيلاتها عالميـًا، لكن هذا لا ينفي أنه في بعض الدول مثل تونس والمغرب خطت تلك المجموعات خطوات عملاقة من خلال ظهورها بشكل لافت في مباريات فرقها، حيث عرفت هذه الظاهرة انتشارًا كبيرًا في السنوات الأخيرة نظرًا للقرب من الثقافة الكروية الأوروبية والاحتكاك بالمدارس المختلفة.
والجمهور الغاضب أو الصاخب يشبه كتلة نار ملتهبة تبحث عن عشب سريع الاشتعال.
أما أدوات القتال فهي كثيرة لدى مشجعي الفرق، بدءًا من الأيدي وزجاجات المياه، وعصي الأعلام، والمفرقعات الصوتية والسكاكين التي يستطيعون تهريبها والحجارة التي يقومون بتكسيرها من الجدران والمدرجات، والكراسي البلاستيكية إن وجدت، وكذلك رمي من يستطيعون عن الحافات العالية .
إنه الموت في الملعب.. موتٌ لا يعرف سوى لغة العنف والتعصب.