شغل العالم أعداء ومحبين له، وألهم كثيرا من الفلسطينيين، ورحل تاركا من قضية وفاته لغزا.
إنه ياسر عرفات، ذاك السياسي الفلسطيني ورمز حركة النضال الفلسطيني من أجل الاستقلال الذي يحتفل الفلسطينيون والعرب بذكرى رحيله الأحد.
اسمه الحقيقي محمد ياسر عبدالرؤوف القدوة الحسيني وكنيته "أبو عمار"، وهو رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية المنتخب في عام 1996.
ولد في 24 أغسطس 1929،في القاهرة، وكان الابن السادس لأسرة فلسطينية تتكون من سبعة أفراد، يعمل والدهم في تجارة الأقمشة.
وينحدر عرفات من جهة أمه من عائلة الحسيني التي تعتبر من الأسر المقدسية الشهيرة التي برز بعض أفرادها في التاريخ الوطني الفلسطيني.
توفيت والدته "زهوة" عندما كان في الرابعة من عمره بسبب مرض الفشل الكلوي، وأرسل بعدها مع أخيه فتحي إلى القدس حيث استقرا عند أقارب لهم في حارة المغاربة، ولكن سرعان ما تم إرساله إلى أقارب أبيه في غزة حيث مكث هناك حتى سن السادسة.
ثم عاد إلى القاهرة وتولت أخته أنعام تربيته فيها، حيث أنهى تعليمه الأساسي والمتوسط هناك.
وفي صباه وشبابه تردد على بعض المنفيين الفلسطينيين، وأصبح مقرباً من أوساط المفتي أمين الحسيني الذي كان منفياً في القاهرة، كما تعرف في تلك الفترة على عبدالقادر الحسيني أبرز قادة العمل الوطني الفلسطيني.
في سن 17 قرر الدراسة في جامعة الملك فؤاد (جامعة القاهرة حالياً)، ودرس الهندسة المدنية، وفي تلك الحقبة تكتلت وتشكلت في هذه الجامعة تنظيمات إسلامية وفلسطينية كان أشهرها الإخوان المسلمين.
وبعد مقتل عبدالقادر الحسيني في أبريل من عام 1948 في معركة القسطل، ترك الدراسة وتطوع في إحدى فرق الإخوان التي حاربت في غزة.
وإثر دخول القوات المصرية إلى فلسطين وإعلان قيام إسرائيل تم حل المجموعات المسلحة للإخوان، وعاد محبطاً إلى مصر حيث واصل دراسته في الهندسة، كما واصل نشاطه السياسي، فانتخب في عام 1952 مع صلاح خلف (أبو إياد) لرئاسة اتحاد الطلاب الفلسطينيين في القاهرة.
على درب المقاومة
في حرب 1956 التحق لفترة قصيرة في الوحدة الفلسطينية العاملة ضمن القوات المسلحة المصرية برتبة رقيب، وبعد تسريحه هاجر إلى الكويت حيث عمل كمهندس، وبدأ في مزاولة بعض الأعمال التجارية.
وواصل في الكويت مع بعض المغتربين الفلسطينيين، وانتهوا إلى تأسيس حركة تحرير وطني جديدة، حيث قام في 10 أكتوبر 1959 مع خليل الوزير "أبوجهاد" وصلاح خلف وخالد الحسن وفاروق القدومي بتأسيس حركة سميت بحركة التحرير الوطني الفلسطينية "فتح".
واعتمدت الحركة في بدايتها على تمويل مستخلص من مقتطعات من رواتب المغتربين الفلسطينيين.
وفي عام 1964، أنشئت منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة أحمد الشقيري، وفي تلك الحقبة أرسى عرفات مع قيادات حركة فتح سياسة تعتمد على البدء بمقاومة مسلحة ضد إسرائيل.
وفي نفس الوقت، قام بتجنيد الرأي العام العربي لصالح القضية الفلسطينية، كما بعث روح الكفاح والمقاومة والاعتماد على الذات بين صفوف الشعب الفلسطيني.
وفي 1 يناير 1965، بدأت العمليات المسلحة لحركة فتح، حيث تمت محاولة تفجير نفق عيلبون.
واندلعت حرب 1967 التي كان لنتائجها تأثيرا كبيرا على الثورة الفلسطينية بعد الهزيمة المرة التي أدت في المحصلة إلى احتلال إسرائيل رقعة واسعة من الأراضي العربية ومن ضمنها الضفة الغربية وقطاع غزة.
نقل المقاومة للداخل
تسلل عرفات عبر الأراضي الأردنية إلى الأراضي المحتلة بعد أسبوع من الهزيمة متخفياً تحت أسماء مستعارة، حيث قام بالاتصال برجال المقاومة وحاول ترتيب أوضاعها.
وبدأت الحركة بتأسيس قواعدها على خطوط التماس المواجهة للضفة الغربية بموافقة الأردن، فأقام معسكرات تدريب ومقر قيادة في قرية الكرامة في منطقة غور الأردن.
وفي عام 1968 حاول الجيش الإسرائيلي العبور واجتياز الأراضي الأردنية وتحطيم مراكز المقاومة التي كانت آخذة في التشكل، وقد تمخضت المواجهة عن معركة شرسة عرفت باسم "معركة الكرامة" انتهت بإجبار القوات الإسرائيلية على الانسحاب تاركة ورائها العتاد والقتلى.
ونتيجة لذلك انضم لحركة فتح الآلاف، وأصبحت الحركة الأكبر من بين التنظيمات الفلسطينية، كما شجع ذلك بعض التنظيمات الفلسطينية على القدوم إلى الأردن.
عرفات.. القائد الرمز
في 3 فبراير 1969 انتخب رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وأصبح بذلك القائد الأعلى لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت تضم عدة تنظيمات فلسطينية، واستمر بتولي هذا المنصب حتى وفاته.
وأرسى عرفات تطبيق سياسة المقاومة المسلحة لتحرير فلسطين، وفي هذا الإطار قامت حركة فتح بسلسلة من الأعمال المسلحة ضد أهداف إسرائيلية تهدف إلى إنهاء الاحتلال.
وفي سبتمبر 1970 بدأت تتصاعد المواجهة بين التنظيمات الفلسطينية والسلطات الأردنية، واتخذت هذه المواجهة منحنى خطيرا.
وفي 1971 غادرت المقاومة الفلسطينية برئاسة عرفات إلى لبنان لتبحث لها عن موطىء قدم آخر للمقاومة.
وبدأت قوى المقاومة التي كان قد تم طردها من المدن الأردنية إلى أحراش جرش في الانتقال إلى لبنان بموجب اتفاقية مسبقة مع الحكومة اللبنانية أشرف عليها الرئيس المصري جمال عبدالناصر، وتم تأسيس مقر قيادة في بيروت الغربية وقواعد مقاومة في الجنوب اللبناني في المنطقة التي عرفت باسم "فتح لاند".
بدأ رجال المنظمة بشن عمليات مسلحة ضد إسرائيل، لكن سرعان ما اندلعت حرب أهلية لبنانية طاحنة، وجدت المنظمة على إثرها نفسها متورطة فيها كطرف من حين لآخر لا سيما أن قوى وطنية من الموارنة عارضت التواجد الفلسطيني.
ولعل اللافت أكثر في الحقبة اللبنانية هي حدوث تحول في مواقف عرفات والمنظمة، وذلك من خلال دمج العمل المقاوم مع النشاط السياسي، ففي عام 1974 تم قبول خطة المراحل حيث أعلنت المنظمة أنها مستعدة لإقامة دولة فلسطينية على أية أراضي فلسطينية يتم تحريرها.
وقد توجه عرفات بخطاب شهير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك عام 1974 تضمن أشهر عبارته الرمزية الموجهة لإسرائيل عندما قال "المسدس في يدي وغصن الزيتون في اليد الأخرى، فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي".
وكان تواجد المقاومة الفلسطينية جنوبي لبنان بمثابة الشوكة التي تقض مضجع إسرائيل، وفي 6 يونيو 1982 بدأت القوات الإسرائيلية بقصف مواقع لبنانية، وقد أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك أرئيل شارون أن هدف القوات الإسرائيلية التوغل 30 كيلو متر في الأراضي اللبنانية هو إبعاد خطر الصواريخ الفلسطينية.
وإثر ذلك أجبرت القيادة الفلسطينية على التفاوض للخروج نهائياً من لبنان، حيث أبرم اتفاق تخرج بموجبه المقاومة الفلسطينية تحت الحماية الدولية من لبنان، مع ضمان أمن العائلات الفلسطينية.
وغادر عرفات بيروت بسفينة فرنسية مع كثير من جنوده، كما غادر على سفن أخرى آلاف المقاتلين الذين تم توزيعهم في شتى البلدان العربية.
وقد اتجه عرفات إلى تونس التي كانت قد أعلنت موافقتها على استضافة القيادة الفلسطينية، وأسس فيها مقر القيادة الفلسطينية.
بعد الخروج من لبنان، ركز عرفات جهوده على العمل السياسي، وكانت ذروة هذا العمل السياسي إعلان الاستقلال الفلسطيني من قبل المجلس الوطني الفلسطيني وإلقاء ياسر عرفات خطاب في 13 ديسمبر أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي نقلت مقرها إلى جنيف بشكل مؤقت بسبب رفض الحكومة الأميركية، منحه تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة.
وأطلق عرفات مبادرته للسلام العادل والشامل في الشرق الأوسط، التي أقرها المجلس الوطني الفلسطيني، والتي اعتمدت على إقامة الدولة الفلسطينية في الأراضي التي احتلت 1967 تعيش جنبا إلى جنب مع إسرائيل.
وبناء عليه فتحت الإدارة الأميركية، برئاسة رونالد ريغان حوارا مع منظمة التحرير الفلسطينية.
ونظرت إسرائيل بكثير من التوجس والقلق، إلى السياسة البراغماتية التي اتبعها عرفات، والتي كانت في محصلتها، محو آثار العمليات التي قامت بها بعض التنظيمات الفلسطينية في أوائل السبعينات والتي لاقت في حينها استنكار عالمي ووصفت بالإرهابية، وحصول المنظمة على مقعد مراقب في الأمم المتحدة، واعتراف كثير من المحافل الدولية بمنظمة التحرير الفلسطينية، ودولة فلسطين التي كانت قد أعلن عن قيامها من الجزائر.
اضطرت إسرائيل وبسبب الضغوطات الدولية إلى التعامل مع المنظمة، وانخرطت في مفاوضات سرية، أسفرت عام 1993 عن الاعلان عن اتفاقية أوسلو، حيث قام عرفات بالاعتراف رسميا بإسرائيل، في رسالة رسمية إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك اسحق رابين، وفي المقابل اعترفت إسرائيل، بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني.
وتزوج عرفات عام 1990 بسكرتيرة مكتبه السيدة سهى الطويل، وكان يبلغ من العمر 61 عاما، بينما كانت سها في 27 من عمرها، وكان ثمرة هذا الزواج، أن ولدت له ابنة سماها زهوة.
الحصار
في عام 2000 التقى ياسر عرفات رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك ، في كامب ديفيد، تحت إشراف الرئيس بيل كلينتون.
وقد كان لدى الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء الإسرائيلي طموح يرتقي في سقفه إلى توقيع اتفاقية حل نهائي.
لكن عرفات رفض التوقيع على الحل المطروح، الذي اعتبره عرفات منقوصا، ولا يلبي من وجهة نظره السقف الذي يطمح له الفلسطينيين وهو إقامة دولة على أراضي عام 1967 بما فيها، القدس الشرقية. أما إسرائيل فقد اعتبرت أنها قدمت في هذه المباحثات، أقصى ما يمكنها تقديمه، وألقت باللائمة على عرفات.
وبعد مباحاثات كامب ديفيد وطابا بدأت الدوائر الأميركية وأوساط من الحكومة الإسرائيلية وبعض السياسيين الإسرائيليين باعتبار أن عرفات لم يعد يعتد به بمعنى عدم جدوى التفاوض معه.
وفي هذه الأثناء ازداد المواجهات وارتكبت عدة عمليات أسفرت عن مقتل كثير من الإسرائيليين وعلى الرغم من شجب عرفات واستنكاره الواضح لهذه الأعمال، بدأ رئيس الوزراء الإسرائيلي أريئيل شارون بتحميل أبو عمار مسؤولية مايحدث.
وفي هذه الأجواء قامت إسرائيل بمنعه من مغادرة رام الله لذلك لم يحضر عرفات مؤتمر القمة العربية في بيروت في مارس 2002 خشية ألا يسمح له بالعودة إذا غادر الاراضي الفلسطينية.
وفي 29 مارس من نفس السنة حاصرته القوات الإسرائيلية داخل مقره في المقاطعة مع 480 من مرافقيه ورجال الشرطة الفلسطينية. وبينما كان عرفات متمسكا بمواقفه في تلك الفترة، بدأ يتقاطر عليه في مقره بالمقاطعة مئات المتضامنين الدوليين المتعاطفين معه.
وقد عملت حينها الإدارة الأميركية وإسرائيل على إقصاء عرفات عن السلطة أو ابعاده عن مركز القرار فيها بدعوى تحميله مسؤولية ما وصلت اليه الأوضاع في أراضي السلطة الفلسطينية من تدهور.
ففي يوم 24 مايو 2002 طلب الرئيس الأميركي جورج بوش تشكيل قيادة فلسطينية جديدة، وبسبب الضغط الدولي وانسداد الأفق السياسي اضطر عرفات للتنازل عن بعض صلاحياته لرئيس الوزراء محمود عباس. ولكن عباس سرعان ما استقال وتولى المنصب أحمد قريع.
بين فكي المرض
وفي 12 أكتوبر 2004 ظهرت أولى علامات التدهور الشديد لصحة ياسر عرفات، فقد أصيب كما أعلن أطباؤه بمرض في الجهاز الهضمي، وقبل ذلك بكثير، عانى عرفات من أمراض مختلفة، منها نزيف في الجمجمة ناجم عن حادثة طائرة، ومرض جلدي (فتيليغو)، ورجعة عامة عولجت بأدوية في العقد الأخير من حياته، والتهاب في المعدة أصيب به منذ تشرين أكتوبر 2003.
وفي السنة الأخيرة من حياته تم تشخيص جرح في المعدة وحصى في كيس المرارة، وعانى ضعفاً عاماً وتقلباً في المزاج، فعانى من تدهور نفسي وضعف جسماني.
رحيله
وقد تدهورت الحالة الصحية لعرفات تدهوراً سريعاً في نهاية أكتوبر 2004، وقامت على إثره طائرة مروحية بنقله إلى الأردن ومن ثمة أقلته طائرة أخرى إلى مستشفى بيرسي في فرنسا.
حينها ظهر الرئيس العليل على شاشة التلفاز مصحوباً بطاقم طبي وقد بدت عليه معالم الوهن مما ألم به، وفي تطور مفاجئ، أخذت وكالات الأنباء تتداول نبأ موت عرفات في فرنسا وسط نفي لتلك الأنباء من قبل مسؤولين فلسطينيين.
وقد أعلن التلفزيون الإسرائيلي في 4 نوفمبر 2004 نبأ موت الرئيس عرفات سريرياً، وبعد مرور عدة أيام من النفي والتأكيد على الخبر من مختلف وسائل الإعلام، تم الإعلان الرسمي عن وفاته من قبل السلطة الفلسطينية في 11 نوفمبر 2004.
ودفن عرفات في مبنى المقاطعة في مدينة رام الله بعد أن تم تشييع جثمانه في مدينة القاهرة، وذلك بعد الرفض الشديد من قبل الحكومة الإسرائيلية لدفن عرفات في مدينة القدس كما كانت رغبته قبل وفاته.
لغز الوفاة
ولم يأخذ السبب الكامن وراء وفات عرفات بطريقة مسلمة لعدى العديدين، حيث تضاربت الأقوال كثيرا عن علة وفاته، إذ يعتقد بعض الفلسطينيين بأن وفاته كانت نتيجة لعملية اغتيال بالتسميم أو بإدخال مادة مجهولة إلى جسمه.
وقد رجح بعض الأطباء ممن عاينوا فحوصاته الطبية ومنهم أطباء تونسيين وأطباء مستشفى بيرس المتخصصون بأمراض الدمان، أن يكون عرفات مصابا بمرض تكسر صفائح الدم.
وبعد موافقة محكمة فرنسية على طلب أرملة الرئيس الفلسطيني الراحل بالتحقيق في سبب وفاته، أبدت السلطة الفلسطينية استعدادها للتعاون وفتح ضريح عرفات واستخراج أجزاء من رفاته للبحث عن مؤشرات بخصوص فرضية التسمم.
ووفقا لتوفيق الطيراوي رئيس اللجنة الفلسطينية المكلفة بالتحقيق في وفاة عرفات، فقد عاين وفد من معهد الفيزياء الإشعاعي بالمركز الطبي الجامعي في لوزان بسويسرا ضريح عرفات، وذكر أن المعهد كشف معلومات تعزز فرضية وفاة عرفات مسموما.