بدأت عاصفة التضخم التي هزت الاقتصاد العالمي بالسنوات الأخيرة في الهدوء، فيما تلوح في الأفق أزمة جديدة تهدد بإعادة الاقتصاد إلى دوامة الأزمات، إذ أن تراكم الديون العالمية وصل إلى مستويات قياسية وخصوصاً على المستوى الحكومي.. هذا التراكم الذي تفاقم خلال فترة الجائحة وما تلاها من ركود اقتصادي، أصبح الآن محور اهتمام الاقتصاديين وصناع القرار.
وبينما يتم بذل جهود كبيرة للحفاظ على مستويات التضخم تحت السيطرة، يتزايد القلق من أن هذه الديون قد تتحول إلى قنبلة موقوتة تفجر أزمة اقتصادية عالمية جديدة، فهل سيكون العالم قادراً على مواجهة هذه التحديات؟ وهل يمكن للسياسات الحالية أن تمنع تحول أزمة الديون إلى كارثة اقتصادية؟
في أحدث تقاريره حول السياسة المالية، حذّر صندوق النقد الدولي من أن الدين العام العالمي سيواصل الارتفاع ليتجاوز مستوى 100 تريليون دولار بنهاية العام الحالي، مما يمثل 93 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي العالمي، لافتاً إلى أن الوضع المالي لبعض الدول قد يكون "أسوأ مما هو متوقع".
وذكر الصندوق أن الديون العامة لم تسجّل زيادة على صعيد النسبة المئوية، إذ إنها بلغت 93 بالمئة منذ العام الماضي، لكنها تزداد من حيث قيمتها، ويُستبعد أن يتغير هذا التوجه متوقعاً أن تبلغ النسبة 100بالمئة بحلول 2030، بزيادة 10بالمئة عن 2019 قبل تفشي وباء كورونا.
صعوبة الموازنة بين خدمة الديون وتحقيق التنمية المستدامة
ويمكن أن يكون الدين العام أمراً حيوياً للتنمية ودافعاً للنمو الاقتصادي، حيث تستخدمه الحكومات لتمويل نفقاتها، وحماية شعوبها، والاستثمار في مشروعاتها وتمهيد طريقها لمستقبل أفضل. ومع ذلك، يمكن أن يكون عبئاً ثقيلاً عندما ينمو الدين العام بشكل كبير أو سريع جداً، وهذا ما يحصل في جميع أنحاء العالم، سواء في الدول النامية أو المتقدمة. بعد أن وصل الدين العام إلى مستويات غير مسبوقة، مسبباً أزمة ديون خارجية طالت العديد من الدول، بحسب الخبير الاقتصادي الدكتور محمد جميل الشبشيري.
وذكر الدكتور الشبشيري في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" أن خدمة الديون في إيطاليا، تُشكّل ما يقارب 20 بالمئة من إجمالي الميزانية، بينما في مصر، تصل مدفوعات الفائدة إلى نحو 40 بالمئة من الإيرادات العامة، مما يعوق هذه الدول عن توجيه مواردها نحو القطاعات الحيوية مثل التعليم والصحة، كما أشار إلى أن الدين العام في الولايات المتحدة تجاوز 130 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي مما يثير مخاوف متزايدة بشأن استدامة هذا الدين على المدى الطويل.
وأضاف الخبير الاقتصادي: "هذه النسب تشير إلى التحدي الكبير الذي تواجهه الحكومات، حيث أصبح من الصعب الموازنة بين خدمة الديون وتحقيق التنمية المستدامة. فعلى سبيل المثال، تعاني الدول النامية من أزمة مضاعفة بسبب استنزاف احتياطياتها النقدية وانخفاض قيمة عملاتها الوطنية، مما يزيد من أعباء سداد الديون ويؤدي إلى تفاقم الانكماش الاقتصادي. وفي محاولة لتخفيف هذه الأعباء، تعتمد بعض الدول على خفض الواردات بشكل حاد، مما يؤثر على مستوى المعيشة ويسبب في بعض الأحيان ارتفاعاً هائلاً في معدلات البطالة والأسعار.
أزمة الديون تتحول لكارثة على شعوب البلدان النامية
وقد تحولت أزمة الديون الخارجية إلى كارثة حقيقية على شعوب البلدان النامية، حيث أصبحت تهدد الأنظمة السياسية والاجتماعية باضطرابات قد تؤدي إلى تفجر الأوضاع. وعلى الرغم من أن المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والأمم المتحدة قد دعوا إلى التدخل لعلاج هذه الأزمة، إلا أن التدخلات القائمة غالباً ما تأتي بشروط تقشفية تزيد من الضغط على هذه الدول وتفاقم من أوضاعها الاقتصادية، طبقاً لما قاله الدكتور الشبشيري.
وأمام هذا الوضع، يبدو أن أزمة الديون أصبحت محور صراع عالمي بين الدول الدائنة والمديونة، وتحولت من مجرد أزمة اقتصادية إلى مشكلة سياسية دولية من الدرجة الأولى. وفي هذا السياق، قدمت الأمم المتحدة خارطة طريق لإصلاح النظام المالي العالمي، تشمل معالجة التكلفة العالية للديون، وتوسيع التمويل الميسر للتنمية، وتوفير تمويل طارئ للبلدان المحتاجة، بحسب تعبيره.
ويشير الخبير الاقتصادي الدكتور الشبشيري إلى أن "أكثر من 3.3 مليار شخص يعيشون اليوم في دول تنفق على مدفوعات الفائدة أكثر مما تنفق على التعليم أو الصحة. هذا الوضع يعطل ازدهار الشعوب ويهدد مستقبلها، لقد أصبح واضحاً أن النظام المالي الدولي الحالي بحاجة إلى إصلاحات جوهرية تمكن الدول من الوصول إلى تمويل ميسر ومستدام، دون الحاجة إلى الوقوع في فخ المزيد من الديون التي تعوق التنمية وتؤدي إلى مزيد من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
ويؤكد بأن الأزمة، سواء في الدول النامية أو المتقدمة، تتطلب حلولاً جذرية بعيداً عن السياسات التقليدية التي تعتمد على مزيد من الاقتراض والتقشف. يجب أن تركز الجهود الدولية على دعم النمو الاقتصادي المستدام، وتعزيز استثمارات في البنية التحتية والتعليم، وتحقيق تنويع اقتصادي يحمي الدول من التقلبات الاقتصادية ويحافظ على قدرتها على الوفاء بالتزاماتها دون التضحية بمستقبل شعوبها.
بدوره، قال الخبير الاقتصادي على حمودي في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "إن العالم ينظر بالفعل إلى أزمة ديون ستستمر على الأقل لمدة 10 سنوات مقبلة، مع وصوله لمستويات قياسية، بل ومع زيادة كبيرة في كل من البلدان ذات الدخل المرتفع وبلدان الأسواق الناشئة، وكنسبة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ارتفع الدين إلى 336 بالمئة وهذا يقارن بنسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي المتوسطة البالغة 110بالمئة في عام 2012 للاقتصادات المتقدمة، و35 بالمئة للاقتصادات الناشئة. كانت 334 بالمئة في الربع الأخير من عام 2022، وفقاً لأحدث تقرير لرصد الديون العالمية الصادر عن معهد التمويل الدولي".
ولكي تتمكن من سداد أقساط الديون وخدمة ديونها، فمن المقدر أن تضطر نحو مائة دولة إلى خفض الإنفاق على البنية الأساسية الاجتماعية الحيوية بما في ذلك الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بحسب حمودي الذي أوضح أن الدول التي تتمكن من تحسين وضعها المالي قد تستفيد من جذب العمالة ورأس المال والاستثمار من الخارج، في حين قد تخسر الدول التي لا تتمكن من ذلك المواهب والإيرادات وربما أكثر من ذلك، ولن يكون من غير المستبعد أن تعاني بعض الدول الكبرى التي لا تعالج قضايا ديونها بجدية، معاناة بالغة، وأن تتفاقم المشكلة، وأن تفلس بعض الاقتصادات الناشئة.
وأضاف الخبير الاقتصادي حمودي: "كما ينبغي لنا أن نتذكر أن الاقتصادات الناضجة مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة واليابان وفرنسا مسؤولة عن أكثر من 80 بالمئة من تراكم الديون في النصف الأول من العام الماضي. وفي حالة الأسواق الناشئة، شهدت الصين والهند والبرازيل أيضاً أكبر الزيادات وضوحاً، لذا فإن سداد الديون سوف يصبح قضية أكثر إلحاحاً مع استمرار تقدم السكان في السن في الدول المتقدمة وندرة العمال".
حلول جذرية
ومن أجل منع أزمة الديون من التحول إلى كارثة اقتصادية، أكد حمود الحاجة الملحة إلى:
- تنفيذ الحكومات وصناع السياسات المالية الإصلاحات الهيكلية لتحسين الإنتاجية الاقتصادية وإمكانات النمو.
- تنسيق الجهود بين الدائنين الدوليين لتخفيف أعباء الديون عن البلدان المثقلة بها برامج مخصصة لذلك.
- تنسيق السياسات وتشجيع التعاون الدولي بين الحكومات والبنوك المركزية لتحقيق الاستقرار في الظروف الاقتصادية العالمية.
- تشجيع الاستثمارات التي تعزز النمو المستدام الطويل الأجل وتقلل من احتياجات الديون في المستقبل.