في خضم تحولاتها الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة، تجد الصين نفسها أمام تحد جديد يتمثل في شيخوخة السكان وتراجع القوى العاملة، ولتجاوز هذه المعضلة، قررت الحكومة رفع سن التقاعد.
ولكن، هل هذا القرار خطوة إصلاحية أم مأزق اقتصادي جديد وسيؤدي إلى نتائج عكسية؟ فبين من يعتبرونه خطوة إصلاحية ضرورية لضمان استمرارية النمو، ومن يراه عبئاً إضافياً على كاهل المواطنين، يبقى السؤال الأهم ما تأثير مثل هذا القرار على الاقتصاد والمجتمع الصيني؟
أقرت أعلى هيئة تشريعية في الصين خطة رسمية لبدء رفع سن التقاعد القانوني في البلاد بشكل تدريجي اعتباراً من 1 يناير 2025 والانتهاء في عام 2040، والهدف النهائي للخطة، رفع سن التقاعد بمقدار ثلاث سنوات للرجال إلى 63 عاماً، وخمس سنوات للنساء العاملات في المصانع من 50 إلى 55 عاماً، وثلاث سنوات للنساء العاملات في المكاتب من 55 إلى 58 عاماً، بحسب تقرير نشرته شبكة (سي إن بي سي) واطلعت عليه "سكاي نيوز عربية".
وأكدت إريكا تاي، مديرة الأبحاث الكلية في مجموعة مايبنك للاستثمار المصرفي أن الإصلاحات متأخرة للغاية، وأن البلاد بحاجة لأن تكون قادرة على الاستفادة من مجموعة العمال الأكبر سناً عندما يصبح انكماش القوى العاملة أكثر حدة في العقد المقبل. مشيرة إلى ان هذا التغيير في السياسة سيؤدي إلى منع انخفاض حاد في نمو الصين المحتمل، ولو بشكل هامشي.
وذكر التقرير أن الصين تواجه مشكلة انكماش القوى العاملة وعجزاً في موازنة المعاشات التقاعدية يمكن أن يلحق ضرراً كبيراً بالاقتصاد، مشيراً إلى أن اقتصاديين طالبوا منذ فترة طويلة بإصلاح قوانين سن التقاعد في البلاد، التي تعد حالياً من أدنى قوانين التقاعد في العالم، والتي تم وضعها في عصر منخفض العمر المتوقع. وفي عام 2023، ارتفع متوسط العمر المتوقع إلى 78.6 عاماً، من حوالي 44 عاماً في عام 1960.
الديموغرافيا المتقدمة في العمر
وأوضح التقرير أن انخفاض معدلات المواليد في بكين وصغر سن التقاعد نسبياً يعني أن عدد السكان في سن العمل سيستمر في الانكماش.
وقال بروس بانغ، كبير الاقتصاديين ورئيس الأبحاث في شركة جيل، وهي شركة إدارة استثمارية، "إن قرار رفع سن التقاعد خطوة حكيمة توازن بين إصلاح الركود الديموغرافي وإدارة توقعات الناس بوتيرة تدريجية".
بدوره، قال تشين شو، كبير الاقتصاديين في وحدة الاستخبارات الاقتصادية: "قد تكون الخطة غير شعبية، لكنها توفر اليقين اللازم وهي جيدة لمستقبل الصين الاقتصادي على المدى الطويل، والصين تجنبت تضييق الفجوة الخمسية بين الرجال والنساء، وهي تمضي بحذر لتجنب المزيد من ردود الفعل الاجتماعية".
الضغط على المعاشات التقاعدية
في حين قالت شينا يوي، الاقتصادية في أكسفورد إيكونوميكس، "إن رفع سن التقاعد سيساعد في تخفيف الضغط النقدي على صندوق المعاشات التقاعدية للحكومات المحلية. وعلى الرغم من أن التدفقات الداخلة قد لا تتغير كثيراً، إلا أن التدفقات الخارجة ستتأخر، مما يشتري الوقت للحكومات المحلية لإصلاح عجز ميزانيتها".
وفي تقرير صدر عام 2019، قدرت الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، التي تديرها الدولة، أن نظام المعاشات التقاعدية سينفد المال بحلول عام 2035.
ومع ذلك، قالت إريكا تاي، من مجموعة مايبنك إن "هناك حاجة إلى القيام بالمزيد لتحسين كفاية التقاعد، مع الإشارة إلى أن الصين تحتاج إلى خطة معاشات تقاعدية أقوى وطرق استثمار متنوعة لضمان مدخرات تقاعدية مستدامة".
وسيتم تنفيذ هذه خطة التقاعد تدريجياً بناءً على نظام حساب معقد إلى حد ما، حيث أضافت وزارة الموارد البشرية والضمان الاجتماعي الصينية بعض الأدوات للمواطنين للتحقق من سن التقاعد المشار إليها على موقعها الإلكتروني وتطبيقها المحمول.
وقالت بكين إنه من الممكن منح إعفاءات لأشخاص معينين، مع حث الحكومات المحلية والإقليمية أيضاً على لاستجابة بفعالية لكبار السن، وتشجيع ودعم الناس للانضمام إلى القوى العاملة أو بدء الأعمال التجارية، وفقاً لتقرير الشبكة الأميركية.
ضمان استدامة التنمية
في حديث خاص لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" قال الخبير الاقتصادي الدكتور مصطفى بدرة: "إن قرار الصين برفع سن التقاعد يعكس توجهاً استراتيجياً يهدف إلى تعزيز التنمية الاقتصادية المستدامة على مدى الخمسة عشر عاماً المقبلة".
وأوضح أن اتخاذ هذا القرار بسرعة، والمتوقع تنفيذه مع بداية العام المقبل، يشير إلى أن الصين تتطلع إلى تحقيق أمرين أساسيين. الأول هو ضمان استدامة التنمية الاقتصادية، وهي مسألة تشغل العالم بأسره في ظل التباطؤ الاقتصادي الحالي. والثاني هو معالجة التباطؤ الكبير الذي يعاني منه الاقتصاد الصيني من خلال التركيز على العنصر البشري كأحد الأعمدة الأساسية للنمو الاقتصادي.
ويعتبر تمديد سن التقاعد يعتبر خطوة استراتيجية لزيادة الإنتاجية الاقتصادية في الصين. فمن خلال الحفاظ على العمال ذوي الخبرة في سوق العمل لفترة أطول، تسعى الصين إلى تعزيز التنمية الاقتصادية وتحقيق معدلات نمو أعلى، في ظل توقعات بركود عالمي، بحسب الدكتور بدرة، الذي يرى أن هذه الخطوة ستمكن الصين من تحسين مخرجاتها الاقتصادية وتجنب التأثيرات السلبية للتباطؤ الاقتصادي العالمي.
المحافظة على الملاءة المالية
وأضاف بدرة أن هناك أبعاداً مالية لهذا القرار، حيث تسعى الصين من خلال رفع سن التقاعد إلى تأجيل صرف معاشات التقاعد، مما سيوفر للدولة مرونة مالية أكبر ويخفف الضغط على الموازنة العامة. هذا التأجيل في صرف المستحقات التقاعدية يتيح للصين الاحتفاظ بمزيد من الموارد المالية لدعم اقتصادها في السنوات المقبلة. وفي ظل كون الصين تعتبر "مصنع العالم"، فإن المحافظة على الملاءة المالية والقدرة على مواجهة التحديات الاقتصادية يعدان ضروريين لمواصلة هذا الدور الاقتصادي الحيوي.
وأشار إلى أن الصين تعاني في بعض مقاطعاتها من نقص في الأيدي العاملة الماهرة، وخاصة في القطاعات الصناعية التحويلية. ولذلك، فإن رفع سن التقاعد للعاملين في هذه القطاعات يساعد في تلبية الطلب الداخلي المتزايد على الأيدي العاملة المؤهلة في هذه الصناعات، وهو أمر ضروري لضمان استمرارية الإنتاج وتلبية احتياجات الاقتصاد المحلي.
وأكد الخبير الاقتصادي الدكتور بدرة أن الصين قد تستفيد من المتغيرات العالمية خلال الخمسة عشر عاماً القادمة، حيث إن الاقتصاد العالمي يمر بمرحلة من التباطؤ الكبير. ويحتاج هذا التباطؤ إلى مزيد من الجهود في مجالي التنمية البشرية والصناعية لمواجهة الركود المتوقع. ومن خلال توفير أيدي عاملة ماهرة قادرة على الإنتاج، تستطيع الصين تعزيز معدلات النمو التي ستنعكس إيجاباً على موازناتها العامة وعلى الاقتصاد العالمي ككل.
خطوة إيجابية لكنها متأخرة
من جهته، اعتبر الرئيس التنفيذي لمركز "كروم للدراسات الاستراتيجية" طارق الرفاعي في حديث خاص لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" أن قرار رفع سن التقاعد في الصين مأزقاً اقتصادياً جديداً، وأوضح أن البلاد تمر بمرحلة مشابهة لما شهدته الدول المتقدمة، حيث يشهد النمو السكاني تباطؤاً نتيجة للتغيرات في سياسات الإنجاب، حتى أن الحكومة غيرت سياستها تجاه عدد الأولاد بسبب توقعات تباطؤ النمو الاقتصادي ونقص القوى العاملة المتوقعة في السنوات المقبلة.
وأوضح أن قرار رفع سن التقاعد جاء نتيجة لارتفاع أعداد المتقاعدين وكبار السن، كما هو الحال في دول أوروبا وكوريا واليابان. ورغم أن هذه الخطوة إيجابية، إلا أنها جاءت متأخرة. وكان من المفترض أن تتخذ الحكومة هذا القرار في مرحلة مبكرة، لكنها الآن مضطرة للبدء في تنفيذ هذا الحل.
وأضاف الرئيس التنفيذي لمركز "كروم للدراسات الاستراتيجية" أن الحكومة الصينية تدرك أنها أصبحت دولة تواجه تحديات تتعلق بتزايد أعداد كبار السن مقارنة بالشباب، ما يستدعي ضرورة البدء بالتخطيط لمستقبل لا يفوق فيه عدد كبار السن على الشباب.
وأكد الرفاعي أن "الصين تواجه أزمة ديموغرافية أكبر من أي دولة أخرى في العالم، ولن تشعر الحكومة بآثارها على المدى القصير، لكنها ستبدأ في الظهور خلال السنوات المقبلة".