لديك تصور ضيق عن العالم، من خلال نوافذ محدودة، ضمن إعلام محكوم، ثم لاحقا، عبر إنترنت بطيئة الخطى، تحبو. 

الصوت المهيمن في الشارع صوت خطباء مساجد ينصحونك بالزهد في الدنيا لكي تكسب الآخرة. وهل أمامنا يا مشايخ من الدنيا ما يستحق ألا نزهد فيه؟! ويحذرونك من… تقريبا كل شيء. من أول خطوة النظرة إلى خطورة الاختلاط. يحذرونك من المراسلة، ثم من غرف "الدردشة" في الإنترنت، ومن الاستماع إلى "أفكار الغرب المنحلة"، ويحذرونك من موبقات المصايف، ومن مغريات الحياة في بلاد الأجانب، ومن الأجانب أنفسهم بوصفهم يأتون إلى هنا ليتآمروا علينا. يحذرونك من الدنيا بما فيها ومن فيها. فما هي إلا ممر. كان أكثر الكتب مبيعا يحمل عنوانا يلخص الوضع كله: "عذاب القبر ونعيمه، وعظة الموت". قرأت هذا الكتاب وأنا في الرابعة عشرة من عمري. لم تكن الحياة لونها "بمبي" كما يذيع التلفزيون الرسمي في عيد الربيع من كل عام. 

حتى المثقفون والكتاب يتداولون موضوعا واحدا بتنويعات مختلفة، الهيمنة الأميركية الغربية والعداء لإسرائيل، ويسترجعون المآسي الأهلية من أول النكسة إلى أيلول الأسود إلى الحرب الأهلية اللبنانية وصولا إلى غزو الكويت. يتحدثون وكأنهم مسؤولو توجيه معنوي في معسكر جيش، وليسوا نوافذ إلى البراح. لا يدركون أبدا أنهم ليسوا إلا وعاظا على المكاتب، هم أيضا يحرضون على الآخر، لكن دون دعوات وآمين، هم أيضا مشغولون بقيم التفوق العضلي، والحرب، والغيرة على الأرض والعرض، وينسون كل شيء آخر، وهم أيضا يتنافسون بحناجرهم أكثر مما يشغلون عقولهم.

أينما تلفت تسمع هذا الكلام. الدول تزايد على بعضها في نفس الاتجاه، من الأقوى عضلات، والأصلب، والأمنع، والأكثر عداء للعدو. الدول كلها إما حديث عن الحرب، أو عن القبر.

أما الحياة، المستقبل، العيش الرغد، التفوق الوظيفي، وباقي مقومات الإحساس بالتحقق الشخصي الفردي .. فعرض زائل حقير.

الآن، على الأقل، تسمع صوتا مختلفا، تسمع كلاما عن الحياة. جيلنا سيدرك ذلك لأنه كان محروما منه. الآن، على الأقل، في أسبوع واحد، تحدثت الإمارات عن مشروع لمليون مبرمج، إن كنت لا تدرك مدى أهمية البرمجة حاليا وفي القادم من السنوات أيًا ما كان مجالك، فحان الوقت لكي تدرك. وتحدثت السعودية عن مشروع نيوم ”المستقبل الجديد“ لمنظقة ذكية تنموية حديثة، تبنى على هذا الأساس، من الأساس. ويتحدث كثيرون عن رغبة في عمران الحياة.

ليس هذا مقالا عن المشروعين، عن شيء آخر. هات صحيفة من التسعينيات من أي بلد في المنطقة وانظر إلى صفحتها الأولى، ستجد خبرا عن القضية، وآخر عن مؤامرة، وثالث عن وساطة للصلح، ورابع عن تنديد. أخيرا صار هناك انشغال، في مكان وراء مكان، بهذه الحياة.

هذا ينعكس عليك شخصيا. ماذا عن صفحتك الأولى، ماذا تريد لها، تحقق وتطور وتنمية شخصية، أم أن تلتحق بكتائب الإخوان؟

في حياة الدول كما في حياة الأشخاص، الهدف الذي تضعه لنفسك يحدد طريقك، قد تصل إليه وقد لا تصل، لكنك على الأقل تسير في طريقه. 

لو كنتُ شابا في العشرين لكنت ممنونا للحظ الأفضل، ليس مثاليا، لكنه أوسع أفقا، وباعث على التفاؤل.