وكان الوصول المصري سنة 1990 متزامنا مع بدء المواجهات الأمنية الحاسمة مع الإرهابيين الإسلاميين في مصر. سنون التسعينيات الأولى كانت سنين انحدارهم الأمني. لكنها لم تكن سنين انحدارهم الاجتماعي. جماعة الإخوان الانتهازيين استفادت كعادتها، وقدمت نفسها كحل وسط، وكسبت أرضا واسعة في غفلة من السلطات والمجتمع عن خطرها. وفعلت ما هو أخطر وأسوأ أثرا من أفعال الإرهاب العشوائي المسلح. استهدفت العقل المفكر. تلك هي السنوات التي اغتيل فيها فرج فودة، وحاول فيها إسلامي اغتيال نجيب محفوظ، وفرقت محكمة مصرية بين دكتور نصر حامد أبو زيد وزوجته.

في كل تلك القضايا وقف الإخوان يشهدون ضد الضحايا ولصالح المجرمين ويدافعون عنهم. وسير الإخوان مظاهرات كبرى لمنع كتب تحت شعار "من يبايعني على الموت". شعار كتبه ناشط "مش إخوان"، في صحيفة اشتراكية أطلقت لتوها لحية، هي صحيفة الشعب. في مشهد لم نكن ندري أنه سيرسم مسار السياسة التي ستتحكم في شبابنا كله. هذا التحالف اليساري الإسلامي مُدَشَنا بتحولات حسن حنفي، وكتابات عبد الوهاب المسيري، وكلاهما قيادات يسارية سابقة، صارت إسلامية.

لقد انهار البعث العربي الاشتراكي إذن، لكنه لم يختف. بل استلم رايته بعث جديد، تبلور في السنين التالية حتى أعلن عن نفسه في الدوحة في منتصف التسعينيات، من خلال مشروع إعلامي لم ندرك - أيضا - خطره السياسي وأهدافه التي لم تختلف كثيرا عن أهداف سلفه. كل الموضوع أنه غير الشعار إلى شعار أكثر تمويها وخداعا، أطلق لحيته وارتدى ملابس الزهد. لقد صار المشروع الجديد مشروع بعث ”إسلامي“ اشتراكي.

وهذه المرة، مع الوصول المصري التالي لكأس العالم، نعيش الأزمة، المواجهة، مقلوبة على وجهها الآخر. بدأ الصراع مع الأطراف ووصل حاليا إلى دولة ”الكنترول روم“. وهذه المرة هناك تحالف أيضا لهزيمته. لكن تقوده دول المنطقة سياسيا لا عسكريا.

هل هذا المقال محاولة لإقحام الحدث في التحليل السياسي؟ ربما تتساءل.

أبدا. إنها قصة عمر شخصي لا يستطيع أن يهرب من أثر السياسة عليه. وصول مصر إلى كأس العالم جعلني تلقائيا أتذكر وصولها السابق. أتذكره كأنه أمس. ثم أدرك أنه ليس كذلك، في الواقع بين التاريخين مضى الجزء الأكبر جدا من عمري حتى الآن. كنت مراهقا وصرت أبا لصبية. ووجدتني تلقائيا أقارن بين الظروف لأرى كم تغير الحال، وفي أي اتجاه.

ثم هناك ما هو أخطر على الصعيد العام. أدركت أن أكثر من نصف مواطني مصر ولدوا بعد الوصول السابق. ولو عممنا نفس الإطار الزمني على المنطقة العربية لن يختلف الحال. هذا يعني أن أكثر من نصف سكان المنطقة لم يشهدوا كوارث البعث العربي الاشتراكي، لم يعايشوا شعاراته الحماسية التي تشعل المشاعر، ثم ينصدموا بوجهه القبيح المخفي حولها.

هؤلاء من السهل عليهم جدا أن ينخدعوا بشعارات وريثه، البعث الإسلامي الاشتراكي، بأسمائه الجديدة، الصحوية والسرورية والإصلاح والإخوان والميليشيات السنية والشيعية ومنظمات وأحزاب مستترة خلف شعارات عصرية ليبرالية وحقوقية ونضالية ومقاومة. كل هذه القوى تغطس رؤوسنا في نفس الماء الراكد المسموم، وقد غيرت اسم الماركة.

وهذه الشريحة نفسها هي الأكبر بين مستخدمي الإعلام المعاصر ومستهلكيه بينما الإعلام المعاصر في المنطقة العربية لا يزال مشغولا بالمنافسة على التوجيه، ومستدرجا بالكامل إلى حرب الملاسنات. هذا مهم، من الناحية الواقعية. لا يمكن تجاهل ذلك. لكن المشكلة أنه لا يخصص جزءا ضروريا للصراع الفكري. أصحاب الأفكار غارقون في الصيغ القديمة للمقال والبحث، وغائبون عن الصيغ الأكثر شبابا.

الحرب النخبوية لا بد منها لكسب الصراع الفكري. الأحزاب الشمولية تدرك هذا، لذا تبدأ باستهداف المواهب والمفكرين والمبدعين. لأنها تخشاهم. هذه الحرب النخبوية لا بد أن تستخدم الإعلام المعاصر أيضا. هل نتعلم من دروس العقود السابقة؟

هناك ما يبعث على الأمل في جوانب أخرى رغم ذلك. هناك نموذج إماراتي حقق إنجازات يستطيع جيل شاب أن يراها بعينيه ويقارن بين ما ينتجه فكر التنمية والانفتاح وبين ما يصيبنا من فكر سد الشبابيك والتخويف. وهناك قيادة في السعودية تقول بوضوح إنها لا تريد أن يعيش شباب السعودية الحالي كما عاش سابقه في سنوات ما بعد جهيمان العتيبي وتأخذ خطوات في هذا الاتجاه. ثم هناك وعي اجتماعي مصري متزايد يفند مفردات الخديعة الإسلامجية. ربما نلحق بالعالم المعاصر، كما لحقنا بكأس العالم.