ما من علاقةٍ بين نقد فرضيّة «المواطَنة الكونيّة» ورفْضِ مبدأ الكونيّة جملةً لصالح فكرة الخصوصيّات ومرجعيّاتها القوميّة؛ كما يمكن أن يُظَـنّ.
نحن هنا لا نقايض هذا بذاك، فنضع الوطنيّة والقوميّة في مقابل الكونيّة، أو نُـؤْثِر الانكفاء إلى حدودنا الكيانيّة؛ وهي ضيّقة من غير شكٍّ أو جدال. لا نرفض ولا نقايض لأنّا نعلم أنّ الكونيّة من حقائق العالم المعاصر في مَواطنَ شتّى منه بحيث لا تقْبَل نفياً أو دحضاً؛ ونعلم أنّها ستظلّ مطلباً ومسعًى مطموحاً إليه من قِـبَل السّواد الأعظم من البشريّة. ولكنّا على يقينٍ، في الوقت عينِه، من أنّ الكونيّة درجات: أدناها - وهو الممكن - التّعاوُن والتّعايش الإيجابيّ والشّراكة بين الدّول والأمم والثّقافات. ولكنّ هذه القيم معلَّقة، هي الأخرى، على قيام علاقاتٍ نِـدّيّـة بين الشّركاء فيها تكون خِلْواً من الهيمنة والتّسلّط والاستعلاء والإملاء والابتزاز...، أي من كلّ تلك القيم الهـدّامة التي تبني العلاقات الإنسانيّة على أسسٍ مغشوشة. في مثل هذه الشّراكة الشّفافة غيرِ الملوَّثة تجد بذور الكونيّة تربتَها الخصبة الصالحة.
إلى ذلك ينبغي أن لا يُنْظَـر إلى الكونيّة بوصفها نقيضاً للخصوصيّات وتنميطاً واحداً قسريّاً للمعايير، بلِ الكونيّةُ الحقّ هي التي تحترم الخصوصيّات بما هي تعبيرٌ عن أنظمةٍ اجتماعيّة وثقافيّة متعدّدة ومتباينة تحكُمها علاقاتُ الاختلاف؛ وما أغنانا عن القول إنّ الحقّ في الاختلاف هو، اليوم، من أقدس حقوق الإنسان بحيث لا يَـقْبَل أن يُهْدَر باسم كونيّة المعايير. هذا هو الممكن الواقعيّ في مطلب الكونيّة، اليوم، أعني في هذه العتبة - أو الدّرجة - الابتدائيّة منها، أمّا أعلى درجات الكونيّة؛ حيث العالمُ واحدٌ والنّظام واحد فما بَرِح، حتّى يوم النّاس هذا، ضرباً من الطّوبى والحديثُ فيه أشبه ما يكون بالرَّجم بالغيب. ولقد تكفَّلتِ العولمةُ نفسُها ببيان حدود هذه الفرضيّة كمَـزْعَمةٍ من المزاعم الجديدة حين انحسرتْ موجاتُها (العولمة) «التّوحيديّة» الهادرة لِتُسفِر عن حالٍ حادّة من تَشَرْنُق قواها ومراكزها الكبرى (الولايات المتّحدة الأمريكيّة، اليابان، أوروبا) على داخلها القوميّ دفاعاً عنه من العولمة نفسِها، أي من أحكامٍ «كونيّة» لا تَقْبل بها قوانينُها القوميّة.
هذا الاستدراك على الكونيّة - الذي يبدو عليه قدرٌ من الحَيْطة والتّحفُّظ - مبناهُ، عند كاتب هذه السّطور، على يقينٍ من أنّ عصر الوطنيّات والقوميّات لم ينصرم بعد، ولا هو فَتَح أفقاً لِمَا بَعْده من أطرٍ أعلى جديدة. نحن، وحتّى إشعارٍ آخر، ما نزال نعيش زمن الوطنيّات والقوميّات على الرّغم من كلّ ما أصاب هذه من مشكلات، وما عَرَض ويَعْـرِض لها من أزمات. والحقّ أنّ العولمة نفسَها أقامتِ الدّليل من تجربتها بأنّها ما أتت إلاّ من أجل توطيد قوّة الدّول (الكبرى) ومركزها في النّظام العالميّ. لم ينشأ منها عالمٌ كونيّ واحد موحّد - مثلما بشَّر بذلك المبشِّرون - ولكن خرج من أحشائها أقطابٌ تَسَرْبلوا بالقـوّة المادّية (الولايات المتّحدة الأمريكيّة، الصّين، الهند، اليابان، أوروبا، روسيا، البرازيل... بل حتّى كوريا الجنوبيّة). هكذا صارت الكونيّة نفسها (العولمة) في خدمة الدّولة الوطنيّة وتحت تصرُّفها: مورداً حاسماً من موارد تعزيز قواها وقدراتها الذّاتيّة وتحسين موقعها في حلبة المنافسة الدّوليّة.
إذا كانت ثمّة ما يمكننا استنتاجه من التّحليل السّابق، فهو أنّ هناك، اليوم، صراعاً على مفهوم المواطَنة بين استراتيجيّات سياسيّة متباينة؛ بين مَن يتمسَّك بالمواطَنة نظاماً تكفله الدّولة الوطنيّة السّيّدة ومنظومات قوانينها الوطنيّة، ومَن يسعى إلى فكّ ارتباط المواطَنة بالدّولة الوطنيّة، ومنها إلى التّشريع لحقوقٍ لا تأبه للسّيادات الوطنيّة حتّى لا نقول إنّها تجدّف ضدّ تلك السّيادات. وما من شكٍّ في أنّ هذا الصّراع بين الاستراتيجيّتين والإرادتين، المومأ إليهما، سيشهد على احتدامٍ شديدٍ في المستقبل بعد أن تَكَوَّن لفكرة مُجَاوَزَةِ السّيادة جيشٌ عرمرم من المنظّمات والجمعيّات المدنيّة في العالم يعمل ضدّ فكرة السّيادة تلك تحت عنوان نشدان الكونيّة.
وإذا كان من شيءٍ يستوجب منّا تشديداً عليه، في هذا المعرض، فهو أنّ إطار الدّولة الوطنيّة وعقيدة السّيادة ما زالا يوفّران النّطاق المناسب للوجود الاجتماعيّ، ويَزيدان تحصيلاً للمشروعيّة والمقبوليّة المجتمعيّتيْن خاصّة كلّما وقَع إعمارُهما بمبدأ المواطَنة ومنظومتها. الدّولة القويّة، الشّرعيّة في عيون مواطنيها، هي التي تُحيط المواطَنة بالحدْب والرّعاية فتحرص، أشدّ الحرص، على ترسيخ علاقات تلك المواطَنة ومبادئها وقيمها الثّقافيّة في المجتمع وفي النّظام التّعليميّ، وتقدّم لغيرها المثال في الإنصاف واحترام كرامة المواطنين. وهي بذلك تكون قويّة، أيضاً، في عيون العالم؛ فتستحقّ من الآخرين احترامها، وإقامة الاعتبار لها، وبناء علاقات حُسن التّعايُـش معها.