الحكمة هبة مجّان؟

الحكمة أيضاً منحة قربان، وليس حرف مَجّان، وعبقرية اللّغة هو ما يسعفنا. فكلمة حكمة في العربية، وكذلك في العبريّة، تعني حرفيّاً: "بيت الألم"، كما تترجمه لنا لغة التكوين، المركّبة من الـ"ها" الدالّة في لغات العالم القديم على كل جرمٍ مشفوعٍ بتجويف. أمّا الكنز فمحفورٌ في صلد الشقّ الثاني من البُنية وهو: "كم" المثقلة بكمٍّ سخيٍّ من المفاهيم، تبدأ مسيرتها في دلالات ذات طبيعة حرفية، مثل "كُم" في معناها كـ"تضييق" قطعة مّا، كما اعتدناها في "كُم" الثوب، في تطويق المعصم، دون أن ننسى أن سرّ الذخيرة إنّما هو حجّة مستعارة من هذا المبدأ الحرفيّ، كما اعتادت لغة البدايات أن تفعل عند نحتها للمفاهيم المجرّدة، انطلاقا من واقع التجربة الحسيّة. فمن مبدأ هذا الفعل البسيط، وهو التضييق، أو الضغط، أو الحصر، بطبيعة الحرفية، أو الحسيّة، انطلق عقال المخيال البدئي لينسج لنا أسطورة في إنتاج المفاهيم ذات السجيّة الوجودية. فمن "الكُمّ" هذه استطعنا أن نهتدي إلى اختراعٍ عمليٍّ هو: التكميم، أي حجب عضو في الجسم كالفم، أو الأنف، أو البصر، سواء لاتقاء شرور كالأوبئة، أو استنزالاً لقصاص في حقّ جُناة. فالتضييق، أو اعتصار أي جرم، هو فعل منتج لـ"وجع"، بالطبع. وهذا الوجع الناجم عن موقف وضعيّ، هو المستهدف كمفهوم لما يخفيه في عبّه من حصيلة ليس لنا، لاستجلاء حقيقته، سوى الاجتهاد في استجوابه بحكم المنطق.

فوضع أي كيان في موقف الحصر، أو العصر، هو نزعة عدوان، الغرض منها استنزال الأذى، كما الحال عند تكميم عضو البدن، أو كما في انحشار الفقع في تربة عصيّة، ليبرز غصباً من قبضة الضائقة البيئية باسم: كمأ، كما ندعوه في لغتنا تيمّناً بمصطلح "كم" في دلالته كألم، ناتج عن فعل المبالغة في الضغط.

من مبدأ تضييق الخناق على الأشياء أو الأجرام، والمغالاة في حصرها غصباً في حيّزٍ لَزيزٍ استعارت الحكمة مفهومها الجسيم، واكتسب الحُكمُ، المستخلص من الحكمة، مدلوله الكينوني الجدليّ الأليم، مما سيعني أن الحكمة، بما في ذلك الحُكم، رهينة ذلك الإحساس، الناجم عن عدوانٍ في حقّ أي جرم، مترجم في حرف عسرٍ، أو حصرٍ، عصرٍ، أو كلّ ضغطٍ هائلٍ في الكيف، ناتجٍ عن كمّ الكمية، القابلة دوماً في أن تتحوّل كيفيّةً، أي كيفاً، كنتيجة طبيعية لكل كَمٍّ، عندما يغترب عن حقيقته، ببلوغه، في صيرورته، حدوده القصوى. وهو ما يعني في النهاية أن الإنسان لا يولد من بطن أمّه حكيماً، ولا حاكماً، ولكن الألم هو الأب الشرعي لكل حكيم، ولكل حاكمٍ، الحاكم هنا ليس بمفهومه كاستحواذ على سلطة دنيويّة، ولكن في مفهومه باحتراف عملٍ منيع هو الحكم على الأشياء.

فلو طاردنا غنيمتنا البدئية، المعطاة لنا بمشيئة أناسٍ أوائل، ينازلون الواقع الحسّي، لاستخراج المفاهيم المجرّدة، من رحم الحرفيّة، لتوظيفها في رسالة، تلعب دوراً فروسياً، في بناء هيكل الكينونة، إذا اعترفنا بأننا لم نكن لنحقق لنا وجوداً، خارج وجودنا في اللغة، فسوف نكتشف أن كلمة "كم" هذه، إنّما تتكتّم على سرّ الكميّة، بما هي تراكم، تراكم لا يتردّد في أن يلعب دوراً هو إبداع أنواعٍ مّا، بهدف تحوليها قيمة كيفية.

فالحكم الذي نستصدره في حقّ أي شيء، هو، في الواقع، تقييم. تقييم لن يُكتب له أن يحقق في نفسه غائيّة إن لم يستوِ في تقويم.

فهل اكتفينا بالفوز بالتقويم في حمّى حملتنا؟

الواقع أننا لن نكتفي بسبب الإغواء الغيبيّ، الكامن في طبيعة الحكم، أي حُكم، ولذا لن نقنع في استبسالنا ما لم نحقّق في المباراة ملاذاً هو: القيمة!

جدير بالملاحظة هنا أن الحُجّة في انطلاقتنا كانت استخداماً لمواهب فعل "كم"، الذي استعارت منه الحكمة جوهرها العميق، القادر على أن يستقيم في الـ"كمّ": الكمّ في مفهوم دالّ على تراكم. تراكم هو هويّة الحجم دوماً، الذي اعتدنا أن نسمّيه: كمّيّة، تيمّناً بـ"الكمّ"، فإذا به يستغفلنا ليقودنا إلى ما اعتدنا أن نسوّقه في حساباتنا نقيضاً لـ"الكم"، وهو: الكيفية، كغاية أسمى في معراج الرحلة الكميّة، الرحلة ككَمّ بوصفها ذلك الوجع الموجع، الذي سوّى حجر الحكمة، ليكون في وجودنا مرشداً نبويّاً. فالمرجع في شأن القيمة إنّما هو استحقاق من صنع نزيف جسيم هو الألم. فالحكمة ستظلّ بنت بيتها، كما يتغنّى سفر الأمثال، ما دام الرهان فيها تضحية عنوانها مخالفة الهوَى. وليس لمن لم يتحمّم بنار الألم أن يدّعي الحكمة، كما ليس من حقّه أن يستصدر حُكْماً على أشياء هذا العالم، كما ليس من حقّه أن يتولّى أمر الخلق، بالإنابة عن خالق الخلق، لأن لا وجود لإنسانٍ عظيم بدون ألمٍ عظيم، كما لا وجود لإنسانٍ حكيم، بغياب امتحانٍ جسيم. فهل نعتنق دين حكيم الجامعة، الذي يقول في سفره: "رأس الحكمة مخافة الله"، أم نعتنق دين وصيّة أقوى حجّةً عندما نقول: "رأس الحكمة محبّة الله"، لسببٍ بسيط هو أننا لا نحبّ عادةً ما نخاف، ولكننا لا نخاف ما نحبّ؟