منح هذا أميركا تخويلاً رسمياً لإدارة شؤون البلد كسلطة احتلال استمرت نحو 13 شهراً. في خلال أعوام وجود القوات الأميركية في العراق سواء بوصفها قوات احتلال، الصفة التي انتهت رسمياً بنهاية شهر يونيو في 2004، أو قوات أجنبية مدعوة من الحكومة العراقية بموجب اتفاق أمني رسمي مع الولايات المتحدة، أصدرت إدارة الرئيسين جورج بوش وباراك أوباما عدداً من الأوامر الرئاسية التنفيذية المتعلقة بالعراق. معظم هذه الأوامر وأهمها أصدرها الرئيس بوش وتعلقت بجهود تحقيق الاستقرار ومكافحة العنف وإعادة الإعمار عبر ربط هذه كلها بالمصالح الاستراتيجية الأميركية.

فهمُ معنى الأوامر التنفيذية الرئاسية الأميركية والتطورات المتعلقة بها وعلاقتها بالعراق ومصالح أميركا أمر معقد نسبياً مرتبط بطريقة عمل مؤسسات الدولة الأميركية. عراقياً، ثمة جهل يكاد يكون تاماً، صحفياً وشعبياً ورسمياً، بهذا الجانب من علاقة أميركا بالعراق. أحياناً يبدو هذا الجهل معيباً لارتباطه بمصالح عراقية مهمة لا يفهمها جيداً الجمهور أو النخبة بل وحتى صناع القرار في البلد. يساهم غياب الفهم هذا في تصاعد الخطابات الشعبوية والحماسية العراقية، بطابعها الإنشائي والتعبوي المتمحور حول الاستنفار المعتاد للكرامة والسيادة الجريحين! في مثل هذه اللحظات، تتراجع قيمة العقل واعتبارات المصلحة العامة لصالح هيمنة الخطابة الوطنية وبراعة الكلمات التي لا تقول شيئاً جديداً. التجديد السنوي للأمر الرئاسي 13303 هو أحد أمثلة هذا الجهل في المعرفة والتخبط في الفهم.

تختص الأوامر التنفيذية الرئاسية، وهي الأوامر التي يصدرها الرئيس الأميركي، بكيفية عمل الحكومة الاتحادية حصراً وهي ملزمة لكل المؤسسات الحكومية ولا تُنطبق على المجتمع لأنها ليست قوانين. تهدف هذه الأوامر إلى تحسين عمل المؤسسات الاتحادية وتطبيق القوانين الصادرة من الكونغرس على نحو فعال، خصوصاً لكن ليس حصراً، في أوقات الأزمات والطوارئ. تنتهي هذه الأوامر الرئاسية إذا لم تُجدد سنوياً أو إذا ألغاها الكونغرس. ما تزال كل الأوامر التنفيذية الرئاسية بخصوص العراق بعد 2003 نافذة مع تحديثها وإلغاء أقسام منها والإبقاء على أقسام اخرى من خلال أهم هذه الأوامر على الإطلاق، الأمر 13303، عبر تجديده السنوي. أنهى هذا القرار ستة قرارات رئاسية صدرت في عقد التسعينات في عهد الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون وكانت كلها عقابية الطابع نحو العراق على إثر غزوه الكويت في 1990، لينقل رسمياً العلاقة بين العراق وأميركا من حالة العداء والتحدي السابقة الى التحالف والصداقة.

لكن الأهم في هذا القرار الرئاسي هو حمايته الودائع المالية العراقية في "صندوق تنمية العراق" الذي أُنشيء بقرار من مجلس الأمن الدولي (القرار 1483)، من المطالبات والأحكام القضائية الكثيرة الصادرة بحق العراق في بلدان مختلفة لصالح شركات وأشخاص تضرروا من غزو العراق للكويت. تقود مثل هذه المطالبات والاحكام الى تقييد حركة الاموال العراقية وصولاً الى تجميدها لاستيفاء الأموال والتعويضات المنصوص عليها في هذه المطالبات والاحكام (تختلف هذه التعويضات عن التعويضات التي دفعها العراق للكويت). منح هذا القرار الرئاسي الأميركي الصندوق حصانةً من تطبيق هذه الأحكام والمطالبات. الصندوق عبارة عن حساب مصرفي تابع للبنك المركزي العراقي مفتوح في مصرف أميركي، جُمعت فيه الأموال العراقية المودعة في حسابات مصرفية مختلفة معظمها كانت مجمدة بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق في التسعينات بينها الأموال العائدة لبرنامج النفط مقابل الغذاء الذي بموجبه سُمح للعراق بدءاً من عام 1996 بتصدير مقادير معينة من النفط من اجل شراء اطعمة وأدوية ومواد طابعها سلمي في ظل إشراف أممي صارم ومعقد.

منذ استئناف العراق تصدير النفط بعد رفع الحظر النفطي الدولي عليه في 2003، أُودعت أموال النفط في هذا الحساب ليتحكم البنك المركزي العراقي بنقلها إلى العراق حسب الحاجة. أشرفت على هذا الحساب في البداية سلطة الائتلاف المؤقتة برئاسة بول بريمر التي كانت قانونياً بمثابة الحكومة الرسمية العراقية حتى منتصف عام 2004 عندما حُلت هذه السلطة وتشكلت الحكومة العراقية المؤقتة بقيادة أياد علاوي التي نُقلت إليها صلاحيات ادارة هذا الحساب في إطار ما عُرف حينها بنقل السيادة من الايادي الأميركية إلى الأيادي العراقية والنهاية الرسمية للاحتلال الأميركي للعراق. تواصلت إدارة الحكومات العراقية المتعاقبة لهذا الحساب حتى ألغي في عام 2014 ليتشكل حساب مصرفي آخر للعراق في مصرف نيويورك الفيدرالي، التابع للبنك المركزي الأميركي المعروف بالاحتياطي الفيدرالي. هذا الحساب الجديد ايضاً محمي أميركياً بموجب بنود في أوامر رئاسية اخرى. في عام 2014 أصدر الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، أمراً رئاسياً تنفيذياً ينهي الحماية الأميركية لصندوق تنمية العراق ومصالح اخرى متعلقة بالبنك المركزي العراقي لانتفاء الحاجة إليها مع ابقائه على حمايات أميركية اخرى نص عليها الأمر التنفيذي 13303 وأوامر تالية صادرة بين عامي 2003 و2007 تتعلق عموماً بملاحقة المتسببين باضطراب الأمن والمعيقين للاستقرار والتنمية الاقتصاديين في العراق.

تبرر الإدارات الأميركية المختلفة إصدار وتجديد هذه الأوامر الرئاسية التنفيذية على أساس مصالح أميركية ينبغي ان يحددها الرئيس في إطار قوانين أميركية مختلفة أهمها قانونا الطوارئ الوطنية الصادر في 1976 وقانون الصلاحيات الاقتصادية في حالات الطوارئ الدولية لعام 1977. بموجب هذين القانونين يستطيع الرئيس الأميركي إعلان حالة الطوارئ في داخل الحكومة الأميركية بخصوص العراق (وأي بلد آخر) شرط ربط هذا الاعلان بمصلحة أميركية أمنية او اقتصادية. بخصوص القرار 13303 ارتبطت المصلحة الأميركية بعمل شركات نفط أميركية في العراق واهمية تدفق النفط العراقي وتحصيل عوائده ومساهمته في تحقيق الاستقرار الأمني والتنمية الاقتصادية في العراق. بسبب عدم تحقق هذه الاهداف الأميركية المعلنة، تُجدد سنوياً الأوامر الرئاسية الأميركية ذات العلاقة. هذا التجديد المستمر علامة على فشل عراقي بالدرجة الأولى واستعداد أميركي للمزيد من الانتظار وعدم نفض اليد من العراق في إطار المصالح الأميركية العامة. في التجديد الأخير الذي بعثته إدارة الرئيس بايدن للكونغرس ذكرت التوصية الرئاسية المبررَ التالي:

"تستمر العوائق التي تعترض إعادة الإعمار المنتظمة واستعادة السلام والأمن في البلد والحفاظ عليهما وتطوير المؤسسات السياسية والإدارية والاقتصادية والحفاظ عليه في العراق— تستمر— في كونها تمثل خطراً استثنائياً وغير عادي على الأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة. ولذلك قررتُ إنه من الضروري ان تستمر حالة الطوارئ المعلنة على أساس القرار التنفيذي 13303 المتعلق بتحقيق الاستقرار في العراق".

بغض النظر عما إذا كانت النخب السياسية والإعلامية، ومعهما الجمهور العراقي، تؤمن بالجهود الأميركية الداعمة للعراق منذ 2003 حتى الان أم لا، واقع الحال الذي لا يمكن الفرار منه هو ان العراق ما يزال يحتاج دعماً أميركياً في قضايا أساسية منها الحفاظ على أمواله من أحكام المصادرة الكثيرة بحقها. بدلاً من الهوس اليومي المعتاد بالسيادة الوطنية واهمية الدفاع عنها في الخطاب الحزبي والرسمي العراقي، تحتاج النخبة الحاكمة ان تقوم بأشياء كثيرة وجدية من أجل ألا يحتاج العراقُ الولايات المتحدة على هذا النحو وتتحقق سيادته الحقيقية وليس الشكلية والخطابية بإزاء أميركا وغيرها من دول العالم والمنطقة. من بين أولى هذه الأشياء هي تصفية القضايا القانونية والقضائية التي تمنع العراق من التحكم بأمواله ونقلها بحرية من دون حماية أو اعتماد على الولايات المتحدة. السيادة الوطنية أفعال وليست مجرد أقوال. لحد الان لم تبرهن النخبة الحاكمة، بأحزابها المهيمنة، أنها قادرة او مهتمة فعلاً بتحقيق سيادة وطنية حقيقية عبر بناء دولة رصينة تخدم المجتمع وترعى مصالحه الكثيرة التي تتعرض للكثير من الاهمال والتجاوز عليها من الاحزاب المتشاركة في الحكم.

- يتبع -