يؤدي الصراع المسلح الذي ينشأ داخل إقليم الدولة بين طرفين أو أكثر عندما تنشب الحرب الأهلية إلى تقاسم السلطات، ومواقع السيطرة على الأرض، ومن ثم يبدأ كل طرف في ممارسة دور الحكومة المركزية التي فقدت هيبتها ومكانتها، فبعد السيطرة على مساحة من الأرض يتعرض قاطنوها سواء كانوا مؤيدين، أو مخالفين، أو محايدين، إلى سطوة تماثل سلطة الحكومة، من تجنيد قسري أو برضا للأفراد، وجباية للضرائب، وفرض أنظمة للتقاضي، وغير ذلك من مهام تمارسها الحكومات الشرعية.

شهدت البشرية عبر التاريخ حروبا أهلية عديدة، كانت فيما مضى تجري أحداثها دون أن يتبلور لها معنى سياسي نتيجة غياب الدولة القومية، التي لم تكن قد ظهرت بعد بمفهومها المعاصر، حيث تجذرت هياكل السلطة وأدوارها لإدارة شؤون منطقة جغرافية، وحيث تجسد صلاحية الحكم القائمة شرعيتها السياسية من تمثيلها لأمة أو قومية مستقلة ذات سيادة.. هكذا أخيرا بعد أن تبلورت الدولة القومية أصبحت النزاعات الداخلية المسلحة تندرج تحت مسمى الحرب الأهلية.

تتعدد أسباب اندلاع الحروب الأهلية، فهي قد تبدأ نتيجة تعقد الوضع الإثني لجماعة ذات هوية إثنية سابقة على تأسيس الدولة، تطالب بالشرعية السياسية؛ لاسيما مع غياب الممارسة العادلة لأركان الحكم، وانفراد عرق بالسلطة وإقصاء عرق آخر، يتعرض الأخير للافتيات بتقليص حظوظه في مشاركة الحقوق السياسة والاقتصادية والاجتماعية، وكنموذج لهذا الخلل الحرب الأهلية بين التوتسي والهوتو التي دارت رحاها في بوروندي ورواندا، وتشي ممارسة السلطة السياسية الرشيدة إلى القدرة على احتواء النزعات العرقية والقومية الانفصالية، مثلما يتبدى هذا الوضع مع إقليم الباسك في إسبانيا، الذي يتمتع بحكم ذاتي ذي تنظيم إداري خاص متعدد الصلاحيات، في دولة نافية للتمييز بين مواطنيها.

كان من أسباب قيام الحرب الأهلية الصراع على السلطة بعد انسحاب الاستعمار، بين الأجنحة والتنظيمات التي كانت تحارب المستعمر، ولاسيما إن كانت القوى الوطنية منقسمة قبل نيل الاستقلال، نتيجة تركز الثروة في أقاليم بعينها، أو تعدد القوميات أو الاختلاف الأيديولوجي بين التشكيلات التي كانت تتصدى عسكريا للاحتلال، كل هذه الأسباب يغذيها ويعمقها الاستعمار قبل انسحابه، وقد تجلت هذه الأسباب في الحروب الأهلية بعد خروج الاستعمار في كثير من بلدان جنوب شرق أسيا، وكان آخر اشتعال لمثل هذا النمط من الحروب الأهلية في أنغولا بعد انسحاب الاستعمار البرتغالي منها.

قد تنتج الحرب الأهلية نتيجة توجه السلطة المركزية نحو بناء نظام مجتمعي وسياسي يلغي التمييز والعنصرية بين قاطني الإقليم، مما يهدد مصالح فئات يمنحها تميزها مكاسب اقتصادية، ويعتبر النموذج الأمثل لهذه النوعية من الحروب الحرب الأهلية الأمريكية؛ التي اندلعت بسبب رغبة الحكومة الاتحادية في إلغاء الرق والقضاء على العبودية، ولا يمكن اختزال تلك الحرب في هذا الجانب فقط، حيث تداخلت عوامل اقتصادية وسياسية أخرى منها خوف الاتحاديين من امتداد نفوذ الجنوبيين إلى الولايات الغربية التي انفصلت عن المكسيك وما يستتبعه من تغير البنية السياسية والاجتماعية في هذه الولايات.

بصفة عامة نتيجة هشاشة الدولة أو الإقليم الذي ينخرط في حرب أهلية غالبا ما تتدخل دول وقوى خارجية متعددة في الصراع الدائر، وتعمل على تأجيج النزاع بانحياز أطراف هذه القوى لفصائل من الجماعات المتناحرة، يحرك القوى الخارجية مصالح وأهداف خاصة، قد تتلاقى الأهداف أو لا تتفق مع الأطراف المشتبكة مباشرة في الصراع، تلك التي تحظى بدعم القوى الخارجية المندسة في الصراع، وكمحصلة فإن الحروب بالوكالة تتمثل إحدى تبدياتها من التدخلات الخارجية في الحروب الأهلية.

من المفارقات المؤسسية تزايد معدل الحروب الأهلية رغم اختفاء الحروب الكبرى بين الدول، وتأسيس الأمم المتحدة ككيان دولي يسعى لحفظ السلام العالمي، وتشير الإحصاءات إلى أن هذه الحروب أدت إلى مقتل قرابة 30 مليون شخص منذ مطلع القرن العشرين، الذي لم يشهد في توقيتات متزامنة أكثر من خمس حروب طوال الفترة حتى منتصفه، بينما شهد النصف الثاني تزامن عشرين حربا أهلية، حيث يعزى إلى الحرب الباردة أنها كانت سببا رئيسيا في تصاعد هذا المعدل.

ومع هذا بعد تراجع الأسباب الأيديولوجية فقد شهد القرن الحادي والعشرين بسبب تواصل حروب أهلية من القرن الفائت أو اشتعال حروب جديدة منذ بداية الألفية الثالثة تواصل للحروب الأهلية، بلغت اثنتي عشر حربا أهلية، من المؤسف أن قرابة نصفها دار في المنطقة العربية، وكان العامل المشترك في نشوبها وتفشيها عناصر الإسلام السياسي.

اعتبارا من بداية القرن العشرين شهدت كل قارات العالم حروبا أهلية؛ باستثناء قارتي أميركا الشمالية واستراليا، هكذا لأسباب تفشي الهيمنة الإثنية، أو تشظي الأوضاع الدينية نتيجة تطرف بعض الجماعات، أو لأسباب سياسية تحركها الأطماع، تنشأ الحروب الأهلية التي تؤدي إلى نتائج اجتماعية واقتصادية وخيمة، وأعداد كبيرة من الضحايا الذين يسقطون قتلى، أو مصابين، أو مشردين يحتمي أغلبهم كلاجئين بالنزوح إلى بلدان أخرى.