ليس فقط لأنه يحل واحدة من أعقد المشاكل منذ خروج بريطانيا من أوروبا قبل ثلاث سنوات، وإنما لأنه يعد أكبر إنجاز لرئيس الوزراء ريشي سوناك الذي تولى السلطة في الخريف الماضي كثالث رئيس حكومة في غضون عام.

باختصار شديد، حين وقع رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون اتفاق بريكست مع الأوروبيين كان كل همه هو أن ينجز خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بغض النظر عن التبعات حتي يدخل التاريخ من باب "من أنجز بريكست". لكن الاتفاق الذي يحكم علاقة بريطانيا بأوروبا لم يكن جيدا بما يكفي وزاد من الأضرار لبريطانيا والانزعاج للأوروبيين.

أما "بروتوكول أيرلندا الشمالية" الملحق باتفاق بريكست فكان حلا سريعا لمشكلة الاقليم الرابع في الاتحاد البريطاني لكنه جغرافيا في الجزيرة الأيرلندية بحدود برية وحيدة مع جمهورية أيرلندا العضو في الاتحاد الأوروبي. ولتفادي حدود جمركية وضريبية بين الاقليم وجمهورية أيرلندا، نظم البروتوكول تجارة السلع والخدمات وغيرها بين بقية بريطانيا وأيرلندا الشمالية بما يضمن عدم وصول بريطانيا بحرية إلى السوق الأوروبية المشتركة من خلال أيرلندا الشمالية. ولأن الاقليم تحكمه اتفاقية سلام تسمى "اتفاقية الجمعة الطيبة" أنهت الحرب الأهلية فيه بين الوحدويين والقوميين فوضعه الداخلي هش. عارض الوحدويون البروتوكول، وزايد عليهم بوريس جونسون بطرح قانون يلغي البروتوكول، فهددت أوروبا بمقاضاة بريطانيا باعتبارها تنتهك اتفاقية دولية.

المشكلة أن الشركات والأعمال تشتكي من التعامل التجاري الحر مع جزء من المملكة المتحدة بسبب ضوابط ادخال المنتجات إلى أيرلندا الشمالية التي يفرضها اتفاق بريكست. ذلك لأن بريطانيا مزقت اللوائح والقواعد الأوروبية التي تحكم التجارة والتعاملات داخل السوق المشتركة. وبالتالي كان لا بد من إعادة التفاوض مع الأوروبيين لحل مشكلة البروتوكول. وليس القرار الثوري الكارثي بالغاء البروتوكول بقانون بريطاني كما أراد جونسون.

تفاوضت حكومة سوناك مع الأوروبيين وتوصلت لحل وسط يعتبر جيدا فعلا ويحل كثيرا من المشاكل في اتفاق بريكست. وبدا تنازل الأوروبيين لحكومة سوناك وكأنه يعطيه ميزة لم تعط من قبل لجونسون. ولأن جونسون يحاول منذ الإطاحة به العودة إلى الصدارة في قيادة حزب المحافظين الحاكم، ولا يريد أن يسلبه أحد إرثه الرئيسي كمنجز بريكست، حتى لو كان زميله في الحزب ووزير خزانته السابق ريشي سوناك، فقد جعل همه افشال الاتفاق الجديد. يتقاطع معه في ذلك الفريق المناويء لأوروبا في الحزب الحاكم، خاصة جاكوب ريس-موج الذي يقود "مجموعة الأبحاث الأوروبية" في حزب المحافظين وهي التي فبركت كل الأكاذيب التي أقنعت البريطانيين بالتصويت لبريكست في 2016. ثم هناك أيضا ليز تراس، التي خلفت جونسون في الحكم لمدة ست أسابيع وفشلت فشلا ذريعا كان سببا في تصعيد الحزب سوناك ليتولى رئاسة الحكومة وإنقاذ البلاد.

لا يواجه سوناك مشكلة في ضمان تمرير الاتفاق الجديد في البرلمان، فحزب العمال المعارض يؤيد الاتفاق وقال زعيمه السير كيير ستارمر أنه سيصوت لصالحه.

مشكلة سوناك هي مع المتصارعين في حزبه الحاكم، خاصة بوريس جونسون وأنصاره. ومعهم أيضا الحزب الديمقراطي الوحدوي في أيرلندا الشمالية الذي لم يقبل أيضا بالاتفاق الجديد. وهكذا يبدو ريشي سوناك في الوضع الأمثل الذي ينطبق عليه المثل الشائع: "احذر عدوك مرة، واحذر صديقك ألف مرة. فربما انقلب الصديق عدوا فكان أعلم بالمضرة".

كل هذا الصراع داخل حزب المحافظين يقلل من فرص فوزه في الانتخابات العامة العام المقبل، ويضاعف من هذا الضعف أن قيادة حزب العمال تبدو مواقفها أكثر "محافظية" من المحافظين أنفسهم فيما يتعلق ببريكست وغيره. يريد ريشي سوناك أن تستمر حكومته حتى الانتخابات، وأن يقود الحزب فيها فلربما يحسن من فرصه فيها. لكن جونسون وريس-موج ودومينيك راب ومايكل جوف وليز تراس وأمثالهم، من زملاء سوناك في الحزب وإن لم يكونوا أصدقاءه، لا يريدونه أن يخطف إنجاز جونسون ليصبح هو من "انقذ بريكست". وبالتأكيد لا يريدون لسوناك أن يكون زعيم الحزب الذي يحسن فرص فوزه بين الناخبين بعدما دمرها بوريس جونسون وليز تراس.

ليس الصراع داخل الحزب الحاكم بجديد، بل هو أحد النتائج الجانبية لخروج بريطانيا من أوروبا. فقد سبق لمجموعة الأبحاث الأوروبية وفريق جونسون وريس-موج أن أفشلوا مفاوضات رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي مع الأوروبيين وأطاحوا بها من زعامة الحزب ورئاسة الحكومة ليخلفها جونسون نهاية العقد الماضي. وهام على وشك أن يكرروا ذلك الآن مع ريشي سوناك على أمل إعادة جونسون للسلطة.

يبدو هذا الفريق، وكأنه غير معني لا بمصلحة البلاد ولا بمستقبل العلاقة مع الاتحاد الأوروبي – الشريك التجاري الأكبر لبريطانيا. إنما هم يركزون أساسا على الانتهازية السياسية والمصلحة الشخصية حتى لو دمروا أصدقاءهم وأفشلوا حزبهم. ومن يتابع ما تنشره صحيفة الديلي تلغراف حاليا من رسائل واتسآب بين وزراء حكومة بوريس جونسون في بداية مواجهة وباء كورونا يدرك بوضوح كيف أن هذا الفريق يتصرف برعونة وعدم مسؤولية في اخطر الأمور التي تواجه البلاد.