فيما بعد ظهرت تشكيلات اجتماعية متماسكة تنازعت فيما بينها على الغذاء، ويختلف علماء الأنثربولوجي والمؤرخون حول طبيعة هذا النزاع، ففي الأنظمة الاجتماعية الأولى كمجتمعات الصيادين التي لم تتولد فيها بنية متماسكة من الأدوار الاجتماعية والتقسيم الوظيفي، كان كل شخص قادرا على المشاركة من أجل القوت في الإغارة أو الدفاع، لكن الزراعة تسببت في تغيرات هيكلية بين الفئة الجديدة من المزارعين والصيادين، وفى الأغلب أدت المجاعات إلى قيام الصيادين بالإغارة على المزارعين وبالتالي تكررت النزاعات العسكرية (بمفاهيم وأدوات ذلك الوقت).

أسس البشر بؤرا شكلت مظاهر اجتماعية أولية تطورت لاحقا إلى مجتمعات أكثر تماسكا وتنظيما، بعد اللجوء إلى التقنيات الأولية في الزراعة والحصاد وتخزين الحبوب لتبقى على مدار العام، وهنا بدأ ظهور القرية المستقرة التي حققت قدرا مناسبا من دوام الغذاء لتجمعها السكاني، وعندما بدأت التشكيلات الاجتماعية الأقل استقرارا في مهاجمة القرى التي تمتلك وفرة من الطعام، هب سكان القرى للدفاع عن مناطقهم ومكتسباتهم الزراعية، ونتيجة تكرار الهجمات نظم سكان المجتمعات الزراعية قوتهم للدفاع ضد المهاجمين ومطاردتهم.

عندما تطورت المجتمعات الزراعية البدائية إلى تكتلات اجتماعية أكبر وأكثر تعقيدا ظهرت المدن وتعددت، مما أدى إلى ضرورة وجود كيانات سياسية قادرة على إدارة هذا التوسع العمراني، ومن ثم احتاجت هذه الكيانات إلى قوة أكثر تنظيما توفر الحماية اللازمة في مواجهة إغارات القبائل غير المستقرة زراعيا، وحتى ذلك الوقت افتقدت أشكال الصراع وجود قوات نظامية من الطرفين وإن بدأت في الظهور لدى المدافعين، في تنظيمات أولية لفكرة القوة الأكثر احترافا، ثم بدأت المدن المتناثرة أو المتنافرة في الاتحاد استجابة لضرورات الوجود وتأمين الاحتياجات، وتم ذلك إما بالتوافق أو استخدام القوة العسكرية ومن هنا نشأت الأقاليم (بلغة العصر المحافظات أو الولايات).

مع تزايد الأقاليم واتساع عددها في محيط جغرافي متصل تحققت قوة عسكرية فارقة لدى بعضها مما دعاها بمنطق المصلحة والسيادة إلى فرض الوحدة، لبناء كيان أكثر صلابة ونفوذ، ومن رحم هذه التحولات نشأت الدولة المركزية التي لم تكن دواعي ظهورها بعيدة عن دور عسكري، سواء بالاستجابة أو الإذعان نتيجة خلل التوازن في ميزان القوة أو بردع مباشر من الكيانات المدينية الأكثر قوة، طوال المراحل السابقة كانت فكرة بناء قوة نظامية مهمتها الأساسية الاحتراف لممارسة القتال تتبلور تدريجيا.

بعد نشأتها وجدت الدولة المركزية نفسها محاطة بتحديات أكثر وتهديدات أكبر في محيطها الخارجي، فرضتها مطامع الكيانات المجاورة التي تريد تعويض النقص في مواردها، لهذا تكررت الإغارات من اتجاهات متعددة وهنا نشأت الحاجة إلى قوة عسكرية متفرغة بعض الوقت واجبها الأساسي حماية حدود الدولة، وإبعاد الغزاة الذين تعودوا اجتياح الأطراف ونهبها أو المكوث في أرضها.

في خطوة تالية أخذت الدول القديمة تعرف أهمية خطوط الإمداد لاستجلاب المواد الخام من مناطق بعيدة عن العواصم، وأصبح من الضروري تأمينها، وحينما بدأت التجارة البينية تظهر في أفق التعاملات الخارجية بين الدول ازدادت أهمية تأمين خطوط التجارة حماية للقوافل التجارية، عندها ظهرت الحصون في داخل الدولة وخارجها في مسار هذه الخطوط، بالتالي تجذرت فكرة بناء قوة عسكرية ذات قدرات تسليحية وتنظيمية تختص بالدفاع عن مصالح الدولة الخارجية، والإشراف على الحصون والقلاع الخارجية.

بدأت القوة النظامية بعد هذه المراحل تتبلور نحو فكرة الجيش المدرب المستعد للقتال دوما، توكل إليه المهام في الدفاع عن الحدود، ورد أي قوى مغيرة على البلاد، والانطلاق أيضا خارج الحدود لدرء المخاطر الخارجية في ضربات استباقية ضد الأعداء، وفى تبدل مأساوي تحولت هذه الجيوش إلى أدوات بطش وتوسع على حساب الدول الأخرى، وصارت الجيوش آلة للهيمنة في نهاية العصور القديمة، واستمرت هذه الدراما العنيفة صاخبة فيما بعد، إلى أن وصلت للحرب العالمية الثانية عندما أصبح العالم كله في حالة حرب.

من اللافت التطابق شبه التام لنموذج نشأة القوة العسكرية النظامية في العالم القديم، وتم ذلك في أكثر من بؤرة في مراحل تاريخية متزامنة بفروق زمانية ضئيلة للغاية. حدث هذا في مناطق مختلفة ومتباعدة من العالم القديم، من دون أن يكون بينها رابط فيما هو ظاهر حتى الآن طبقا لما حققته الدراسات الأركيولوجية، وكمثال غير حصري لهذه الحالة المثيرة للتأمل حضارات مصر وبين النهرين والصين.