منذ أن عرفت البشرية القوات النظامية لازمت الجنود فى البداية إيقاعات الطبول؛ كى يسيروا على خطوة واحدة فى الطوابير، ولخلق حالة من التواصل المعنوى بين الأفراد، وجعل كل واحد منهم يستشعر أهمية وجوده مندمجا فى المجموع، كما إن الاستجابة للإيقاع فى مراحل التدريب تغرس الطاعة والالتزام بالأوامر.

ثم ظهرت لدى الجيوش قديما فى مرحلة متقدمة الأبواق، التى كانت تستخدم بتيمات صوتية معينة لجمع الجنود وصرفهم أثناء الوجود فى أماكن التدريب.. أثناء الحرب استخدمت الأبواق كوسيلة تعطى الإشارة ببدء الهجوم، أو إرسال أوامر للأطراف الأبعد عن مركز القيادة لتنفيذ خطط متفق عليها سابقا.

الطريف أن فكرة استخدام الأبواق مازالت مستخدمة حتى اليوم؛ فى معسكرات التدريب والكليات العسكرية ومواقع الأنشطة العسكرية المختلفة، لكن أبواق الأسلاف القديمة أستبدلت بوسائل أكثر حداثة مع تطور الموسيقى ذاتها، فأصبحت آلة بعينها من عائلة أدوات النفخ هى التى تستخدم بدلا من البوق القديم.

أطلق على الإشارات الصوتية المستخدمة لنداء الجنود مصطلح "النوبة"، لتنبيه الأفراد العسكريين عند استيقاظهم أو نومهم داخل المعسكرات والوحدات، وجمعهم وصرفهم للتدريب، وجمعهم فى توقيتات تناول الوجبات، وحضور طابور تحية العلم يوميا، وكانت تطلق تسمية "البروجى" على الفرد الذى يقوم بهذه المهمة.

مع تقدم وسائل التكنولوجيا حل مكان البروجى أجهزة حديثة؛ تُضبط توقيتاتها للبث آليا بدقة، باستخدام مكبرات صوت متوزعة حتى ينتبه لها جميع الأفراد، ومعروف لدى الذين مروا بالخدمة العسكرية فى كل جيوش العالم كراهية الجنود لنوبة صحيان، التى توقظهم وهم يطمعون فى مزيد من النوم، لأن من يتباطئ فى مغادرة السرير يتعرض للعقاب.

تطورت الموسيقى العسكرية عبر التاريخ فتشكلت الفرق الخاصة التى كانت تصاحب الجيوش فى طريقها للحرب بل وأثنائها، وإلى وقت قريب استمرت هذه الظاهرة حتى الحرب العالمية الأولى، يستصرخ بها الجنود لتصرفهم عن التفكير فى شبح الموت الذي يحاصرهم، ولما لا وقد أوصى العالم الجليل "إبن سينا" بالموسيقى لأنها تسكن الأوجاع والهموم، وواقعيا أهتم بها القادة لأنها تلهب الحماسة حين تصدح المارشات بأصواتها الملحمية العالية، فتتقد مشاعر الانتماء ويندفع الرجال نحو الواجب بحمية وشجاعة.

فى حروب أوروبا الطويلة كانت الموسيقى تصاحب الجيوش دائما فى حملاتها، حتى أن "ميكافيلى" كان فى كتابه فن الحرب يتغزل في الأبواق، معتبرا إياها أداة تكتيكية تبعث بالإشارات إلى الجنود في ميادين القتال؛ متغلبة على ضجيج المعركة، وطوال الحرب الأهلية الأمريكية كانت فرق الموسيقات العسكرية تنتشر بين قوات الطرفين، وكان للجنود دورا لافتا فى نشر موسيقاهم وأغانيهم فى البيئات المحلية التى مروا بها، ويشير "كريستيان ماكويرتر" مؤرخ هذه الفترة بأن تأليف الأغانى والموسيقى بداعى الحرب الأهلية تسببا فى طفرة غير مسبوقة فى مجاليهما.

عندما انتهى دور الموسيقى فى ميادين القتال لم يتراجع دورها بالأناشيد الحماسية التى كانت تبث للمواطنين فى الجبهة الداخلية، ومن المفارقات أن سيمفونية الألمانى "بيتهوفن" الخامسة كانت رمزا للمقاومة لدى الحلفاء، وفى روسيا كانت سيمفونية "دميترى شوستاكوفيتش" السابعة المسماة ليننجراد التى ألفها أثناء الحصار حافزا هائلا ألهب روح المقاومة؛ لدى الصامدين فى ظروف المدينة العصيبة لمحاصرين كانوا يأكلون القطط والكلاب وأوراق الشجر.

وبلغ من تأثير المارشات العسكرية إعادة تركيبها فى قوالب الموسيقيى الرفيعة مثل السيمفونية والصوناتة، وامتد أثرها إلى الأوبرا في المشاهد ذات الطابع العسكري، وتختلف سرعة إيقاع المارش بتنوع المناسبة المستخدم فيها، فهو في الاستعراضات العسكرية سريع، وفي المواكب الجنائزية بطيء، وفى الأعمال الدرامية غالبا مايكون متوسط.

ومن المفارقات التى تتعلق بالعلاقة بين الموسيقى والحرب إلغاء عزف أعمال الموسيقيين من أصول ألمانية فى بريطانيا أثناء الحرب العالمية الأولى، لكن العقلاء من النقاد والمثقفين اعترضوا على هذا وانخفضت أعداد رواد حفلات الكونسير، ولم يستغرق هذا الوضع سوى مدة قليلة وعادت أعمال المؤلفين الألمان من أمثال بيتهوفن وفاجنر وريتشارد شتراوس وغيرهم تصدح فى قاعات لندن،فالفن يعلو على الحرب والسياسة.

كثيرا ماتقوم فرق الموسيقات العسكرية فى مختلف البلدان بتنظيم حفلات فى المناسبات الوطنية، فى الميادين العامة والاستادات والأماكن المفتوحة، ومن معالم لندن السياحية الشهيرة تغيير حرس قصر باكنجهام، الذى يصحبه عزف فرقة موسيقى عسكرية كاملة، كما تعزف فرق الدول فى المناسبات الكبرى.

بعد الأبواق والطبول وآلات النفير البدائية أخذت ألات الموسيقى العسكرية فى التطور رويدا رويدا، حتى صارت تحتوى أنواع متعددة منها بعض مما يستخدم فى الفرق الأوركسترالية؛ لتناسبه مع طبيعة الدور الذى تؤديه فرق الموسيقى العسكرية، ثم أصبحت هذه الفرق تضم أنواع مختلفة الأحجام من الطبول، وتتعدد فيها ألات النفخ مابين خشبية ونحاسية، والصاجات النحاسية ذات الأحجام الضخمة، وفى بعض المناسبات الخاصة تستخدم الألات الوترية.