وقد دفع هذا الدفء الأوروبي أسعار الغاز إلى مستويات دنيا، وصلت إلى ثلث ما بلغته في أوغسطس الماضي، بل وأدنى من ذلك بكثير للشحنات الواصلة الآن. لكن فصل الشتاء مازال في بدايته، والوفرة الحالية قد لا تستمر طويلا، إن تدنت درجات الحرارة في أشهر الشتاء اللاحقة.

أسعار الغاز العالمية تضاعفت 13 مرة عما كانت عليه في الفترة 2018-2021، إذ تجاوزت 350 دولارا لكل مليون واط/ساعة (7600 قدم مكعب)، عندما أعلنت روسيا في أوغسطس بأنها سوف توقف تدفق الغاز إلى أوروبا عبر خط نورد ستريم 1. لكنها انخفضت لاحقا إلى 232 دولارا. لكن الأسعار انخفضت الآن إلى 142 دولارا، للإمدادات الواصلة في فبراير من العام المقبل، و110 دولارات للإمدادات الواصلة في ديسمبر، حسب مجلة الإيكونوميست الاقتصادية. بل تدنت إلى 108 دولارات يوم الخميس الماضي للشحنات الواصلة في ديسمبر، حسب قناة "سي أن بي سي" الاقتصادية.

وذكرت مجلة الإيكونوميست أن أسعار الغاز تدنت إلى 35 دولارا (أو يورو، فالعملتان متساويتان في القيمة حاليا) للشحنات الواصلة الآن. لكن المشكلة أن المخازن ممتلئة حاليا ولا توجد فيها سعة إضافية، ما يعني أن التحدي القائم هو إيجاد طاقة خزنية إضافية، وهذا الأمر لا يمكن إنجازه بالسرعة المطلوبة. مع ذلك، فإن الأسعار مازالت مرتفعة، إن قورنت بما كانت عليه قبل الأزمة، إذ كان معدل السعر المتداول للغاز الطبيعي عام 2021 بين 15-20 دولار.

الاستيراد الأوروبي المكثف للغاز خلال الأشهر الستة الماضية، الذي نتج عن الهلع الذي صاحب الغزو الروسي لأوكرانيا مطلع العام الجاري، قد قاد إلى امتلاء الخزانات، ما دفع الشركات الناقلة إلى أن تدفع أموالا لقاء التخلص من حمولاتها، خصوصا وأنها ستخسر أموالا أكبر عبر بقاء الناقلات ممتلئة، وبالتالي عاطلة عن العمل. وحسب وكالة ICIS الاستشارية، فإن 30 ناقلة غاز عائمة الآن في المياه الأوروبية تنتظر تفريغ حمولاتها.

ويقدِّر الخبراء أن المخازن الحالية يمكن أن توفِّر الغاز لسبعة أسابيع فقط، إن انخفضت درجات الحرارة إلى المستويات المعتادة، ما يجدد القلق من احتمال حصول شحة جديدة في الطاقة مطلع العام المقبل. وحتى إن بقي فصل الشتاء الحالي معتدلا، ولم تنفد كميات الغاز المخزونة حاليا، فإن القلق سيبقى قائما حول احتمالات توفر كميات كافية من الغاز للعام 2023/2024، إذ ليس مؤكدا أن تتمكن الدول الأوروبية من الحصول على الغاز في العام المقبل بالسهولة التي حصلت عليه هذا العام لأسباب كثيرة.

من أهم هذه الأسباب أن العديد من الدول اعتمدت على مخزونها من الغاز الطبيعي هذا العام وأنها سوف تلجأ إلى البحث عن مصادر جديدة للغاز، في ظل غياب الغاز الروسي عن الأسواق، إذ إن خط نورد ستريم 1، متوقف كليا، وخط نورد ستريم 2 لم يبدأ العمل أصلا. هناك أيضا احتمال أن يتوقف تدفق الغاز في خط "تورك-ستريم" المار عبر أوكرانيا.

سبب آخر للقلق هو أن اشتداد المنافسة على الغاز السائل، الذي أصبح بديلا للغاز الروسي، قد يجعله شحيحا في الأسواق، أو مرتفع الثمن، في العام المقبل. سبب ثالث هو أن العديد من الدول التي عانت، أو بدأت تعاني، من الكساد، تعمل بقوة حاليا على إنعاش اقتصاداتها، وأنها يمكن أن تستخدم المزيد من الطاقة في التنمية الاقتصادية، وهذا من شأنه أن يزيد طلبها على الغاز ما يؤدي إلى شحته أو ارتفاع أسعاره.

وتجري دول الاتحاد الأوروبي استعدادات ضرورية للتكيف لغياب الغاز الروسي لسنين عديدة مقبلة، منها أنها بدأت تنشئ محطات جديدة لتحويل الغاز السائل إلى غاز مرة أخرى، فالكثير من الدول، خصوصا ألمانيا، لا تمتلك مثل هذه المحطات حاليا، لأنها اعتمدت منذ عقود على تدفق الغاز الروسي إليها بسهولة وبأسعار رخيصة. هناك أيضا مساعٍ لمعالجة أزمة خزن الغاز السائل، فالخزانات الحالية غير كافية للاحتياجات المحتملة للغاز السائل. هناك طاقة تخزينية متوفرة في دول أوروبا الشرقية، لكن معظم المرافئ التي تصلها شحنات الغاز تقع في دول أوروبا الغربية.

ومن المشاريع الأخرى للتعويض عن الغاز الروسي هو مشروع إنشاء خطوط جديدة لنقل الغاز من أفريقيا إلى أوروبا. وقد تكثفت زيارات المسؤولين الأوروبيين إلى الجزائر خلال الصيف الماضي، إذ زارها رئيس وزراء إيطاليا، ماريو دراغي، ومستشار ألمانيا، أولاف شولتز، ورئيس فرنسا، إيمانويل ماكرون. الرئيس الفرنسي اصطحب معه وفدا مكونا من 90 عضوا، بينهم 6 وزراء، ومديرو شركات طاقة كبرى، مثل Engie، لإبرام اتفاقات عديدة في مجال الطاقة.
كما وقعت كل من شركة "إيني" الإيطالية و"أوكسيدنتال" الأميركية و"توتال" الفرنسية، عقد انتاج تشاركي مع شركة "سوناتراك" الجزائرية، بقيمة 4 مليارات دولار، وهذا المشروع يمكن أن يزود أوروبا، خصوصا إيطاليا، بما تحتاجه من الغاز. وكانت إيطاليا تعتمد على الغاز الروسي بنسبة تقارب 90%.

وهناك أيضا مشروع إنشاء الخط العابر للصحراء Trans-Saharan الذي ينطلق من منطقة "واري" النيجيرية، الواقعة على المحيط الأطلسي، مرورا بالنيجر والجزائر، ثم إلى أوروبا عبر البحر المتوسط، الذي أعلنه وزراء الطاقة في البلدان الثلاثة أواخر يوليو الماضي. وسوف تستفيد الجزائر من هذا الخط، من خلال تصدير مواردها الطبيعية عبره إلى أوروبا، وكذلك من خلال تلقي رسوم المرور للغاز والنفط المارين بأراضيها.

لكن المشكلة هنا أن علاقات الجزائر بروسيا قديمة ووطيدة، حتى أنها امتنعت عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، أثناء التصويت على القرار الذي يدين "الغزو الروسي لأوكرانيا". المشكلة الأخرى هي أن العديد من الدول الأوروبية، إضافة إلى الولايات المتحدة، تقف إلى جانب المغرب في قضية الصحراء، الأمر الذي يزعج الجزائر، التي تساند جبهة البوليساريو الانفصالية. وعندما أعلنت إسبانيا في يونيو الماضي تأييدها لحق المغرب في الصحراء، قامت الجزائر بإلغاء معاهدة التعاون معها المعقودة عام 2002، علما أن إسبانيا تستورد 65% من احتياجاتها من الطاقة من الجزائر.

هناك فرصة نادرة للجزائر لتعظيم الاستفادة من مواردها الطبيعية، واستقطاب الاستثمارات العالمية التي ستساهم في تطوير اقتصادها ورفع المستوى المعاشي لشعبها، إن هي فصلت المواقف السياسية عن التعاملات الاقتصادية، وتوقفت عن استخدام الطاقة سلاحا في معاركها السياسية، خصوصا في خلافها مع المغرب حول الصحراء، الذي لم يعد مجديا، بل صار عقبة تعيق تعاون دول المغرب العربي، بل وتعيق تطور الجزائر، ولكن لا يبدو أن الجزائر جاهزة سياسيا لاستثمار هذه الفرصة التأريخية النادرة.

من ناحية أخرى أشار تقرير روسي سري، أعده خبراء روس للتداول المحدود بين القادة، نشره موقع "بلومبيرغ" للبيانات الاقتصادية، إلى صورة قاتمة للاقتصاد الروسي كنتيجة مباشرة للعقوبات الغربية المفروضة على روسيا. ويشير التقرير إلى أن الاقتصاد الروسي لن يعود إلى معدل النمو السائد قبل حرب أوكرانيا، إلا بعد عقد من الزمن. وقد وضع التقرير ثلاثة سيناريوهات لاحتمالات الاقتصاد الروسي، سيناريو الركود inertial وسناريو التراجع أو الإجهاد stress وسناريو الطموح أو الهدف Target. ووفقا لسيناريو الركود للعام المقبل، فإن الاقتصاد سينكمش بنسبة 8.3%، عما كان عليه عام 2021، بينما يتوقع سيناريو الإجهاد انكماش الاقتصاد بنسبة 11.9% في عام 2024.

وإن كانت الصورة غامضة بخصوص المستقبل، سواء أكان في روسيا أو أوروبا، إلا أن المتوقع أن العالم سيبدأ بالتكيف للوضع الجديد، وأن سوق الطاقة سوف يبقى متحكما بالنشاط الاقتصادي العالمي والسياسة الدولية. إنها فرصة نادرة، بل نادرة جدا، للدول الغنية بالموارد الطبيعية، كالنفط والغاز، خصوصا العراق وإيران والجزائر وليبيا، لتنمية اقتصاداتها والتغلب على مشاكلها ورفع المستوى المعاشي لشعوبها، والدخول إلى الاقتصاد العالمي بقوة. لكن مثل هذا السيناريو يحتاج إلى حكمة سياسية وتخطيط بعيد النظر، وهما غائبان حاليا، على ما يبدو، عن قادة هذه الدول.