لا تتبـدّد الواحدةُ منها - بعد أن تكون قد استنزفـت القــوى وأخذتِ القُــلَّ والكُـثـر- حتّى تُـولَـد أخـرى في ما يشبه سـيْلاً منهمراً لا يتوقّـف! ومع وجود قانونٍ دوليّ «حاكم» ومنظومـةِ أعراف دوليّة يُلْجأ إليها عنـد الاقـتـضاء، لا يبـدو أنّ مفاعيلها نافـذة لجهة احتواء تلك المشكـلات والأزمات، بدليل ما يَـعْـرِض لاتّفاقات فضّ المنازعات نفسها من خروق حتّـى من قِـبَـل مَـن وقّـعوا عليها!.

ومن البيّـن، تبعاً لذلك، أنّ هذه الأزمـات تَـغْـشى نتائجُـها العلاقات داخل النّـظام الـدّولي، وتنعكس على سياسات الـتّعاون أو حسن الجـوار بين الـدّول، وقــد تُـوتِّـر الأجواء السّياسيّة في هذه المنطقة أو تلك من العالم، وربّـما أخـذت دولتين أو دولاً إلى قطع علاقات التّمثيل الدّبلوماسيّ، أو إلى سياسات المقاطعة التّجاريّة والاقتصاديّة، أو زيادة الـتّسلّح، وربّـما إلى مواجهات عسكريّة محدودة أو شاملة. وليست هذه فرضيّـات لما سيكون عليه العالم في أجـواء الأزمـات، بل هي وقائع يملك أيّ إنسان أن يـعايِـنَـها في مشهـد السّياسة الجاري على المسرح العالميّ اليوم، بل منذ عقــودٍ خَـلَت.

مـن النّافـل القول، استطراداً، إنّ رسوخ هذه البيئـة النّـزاعيّة في العالـم تُـديـن النّـظامَ العالميّ برمّـته ومؤسّـسات ما يُـسمّـى «المجتمع الدّوليّ» وقانونَـه، وميثاقَـه، وصدقيّـةَ قراراته، وزعْـمَ قواهُ الكبرى حِـفْـظَ الأمـن والسّلم وترسيخَ قيم التّعاون في العلاقات الدّوليّة. ولكن، هـذا هـو الواقع الذي لا يرتفـع، ولا مهْرب لأمّـةٍ أو دولـةٍ من الاعتراف بقـهـريّـته الموضوعيّة، والسّـعي إلى التّكيّـف الاضطراريّ مع أحكامـه بما يسمح بتحييد آثارها السّلبيّة والـضّارّة عليها.

ما مـن أمّـةٍ أو دولـةٍ تملك أن تفـرّط في حـقٍّ من حقوقها، خصوصاً تلك التي يعترف لها العالم بـها؛ وأوّلـها أمـنُها والسّيادةُ على أرضـها وشعبها وثروتها. ولكـنّ الـدّولة التي تحترم حقوقها وتناضل عنها هي، حصراً، التي تسلّـم بالحقوق المشروعة لغيرها من الـدّول. إنْ لم تفعل ذلك كان احترامُـها نفـسُه لحقوقها منقوصاً أو مشروخـاً أو مدعـاةً إلى الطّـعن في حقوقها من غيرها. وما إنْ تحمي دولـةٌ سيادتَها وتتمسّك بحقوقها وتُـشْـعِر غيرَها في العالم بأنّـها تحترم حـقَّـه المشروع، حتّى ترفع عن نفسها أيّ مسؤوليّـة عن إنتاج أزمات العالم؛ ذلك أنّ هذه ليست شيئاً آخر أكثر من منتوج من منتوجات سياسات دولٍ لا تَـعْـمَل بقاعدة احترام حقوق الآخريـن.

حينها لا يعود ثمّـة من حاجـز أمام سلوك سياسة تعايُـشٍ بين الـدّول. هذا هـو الحدّ الأدنى في العلاقات الصّحيّة بين الدّول، وهو دون سياسات التّعاون أو الشّراكة مرتبةً. لكنّه الحـدّ الأدنى المقبول في مجال العلاقة بالعموم إذا كان التّعاون والشّراكة ممّا يقعان في باب العلاقة بالخصوص؛ أعني بين دولٍ بلغت من التّفاهُـم على مشتَـرَكات سياسيّة وثقافيّة واقتصاديّة حـدّاً تداخلت فيه مصالحها، أو تولّـدت منه مصالح مشتركة، فباتت صلاتُها البينيّة أشـدَّ متانـةً ورسوخـاً.

والتّعايُـش مبناهُ على الاعتراف المتبادَل بين الدّول، وعلى سعْـي مَـن بينها نزاعات في مسائلَ خلافيّة على تسويتها بالحوار والحلول السّلميّة، إمّا مباشرةً أو من طريق الأمم المتّحدة أو غيرها من المنّظمّات الإقليميّة. وأوّلُ مقتضًى من مقتضيات التّعايُش عـدمُ التّدخُّـل في شؤون دول أخرى بأيّ صورة من صور التّدخّـل (سياسيّ، عسكريّ، إعلاميّ...)؛ إذْ إنّ مَـن يسمح لنفسه بالتّدخُـل في الشّؤون الدّاخليّة للآخر يُشرْعِـن لغيره الحـقَّ في التّدخُّـل في شؤونه الدّاخليّة. ولكـنّ الأهـمّ في سياسة التّعايُـش - إلى جانب كونها سياسةَ اعترافٍ بالاختلاف بين الدّول في السّياسات والخيارات - أنّها تقود العلاقة بين الدّول إلى حيث تستقيم على قاعدة الاحترام المتبادل والنِّـدّيّـة في المكانة والتّـعامُـل.

على أنّ التّعايُـش لا يُسْتـأتَى من مجـرّد الرّغبـة في تحقيقه بين دولـةٍ وأخرى أو أُخَــر و، بالتّالي، فهو ليس معطًى موضوعـيّاً قائماً وناجـزاً ما عـلى الدّول سوى أن تلجأ إليه، وإنّما هو حالةٌ تُبنَى ويُصار إليها بالـتّوافُـق عليها بين الشّركاء فيها. وفي الظّـنّ أنّ المصيرَ إلى إنتاج حالة التّعايُش بين الدّول يتوقّف على شرطٍ لا يكُونُ ذلك التّعايُش إلاّ به: فـرْضُ الدّولةِ احترامَها على مَـن ستتعايش معهم؛ ذلك أنّ المنطق الحاكِـم للعلاقات بين الدّول هو منطق القـوّة. وليس المقصودُ بها هنا، حـصْراً، القـوّة العسكريّـة بل أنواع القـوّة جميعها: القــوّة السّياسيّة، والقـوّة الاقتصاديّة، والقوّة العلميّة والتِّقانيّة، والقوّة الأخلاقيّة أيضاً. متى كان لدولةٍ قـوّةٌ من هذه القوى احتُـرِمت وصارت مُهابة الجناح، بل وخُطِب ودُّهـا.

علّمتنا تجربة الحرب الباردة بين العُظميـيْن أنّ النّزاعات بين الدّول، وإنْ عَظُمت واحْتـدّ بينها الخلاف، ليست مانـعاً يحول دون التّعايُش بينها. ولقـد حـدث تعايُـشٌ سلميّ بين العظمييْن والمعسكريْـن، بحيث لم تنشأ حـربٌ بينهما، وتوافـقـتَا على سياسة التّعايُش بينهما لأنّهما اعترفتا لبعضهما بالقـوّة وتَعاملـتَا معاملةَ أنـداد.